مقدمة
في بحثه «لماذا أنا غير مسيحي» يؤكد الفيلسوف برتراند راسل أنه من الناحية التاريخية هناك شك فيما إذا كان المسيح قد وُجد فعلاً، وإذا كان قد وُجد فإننا لا نعرف عنه شيئاً (Russel, WIANC, 16).
إنه لمن المؤسف حقاً أن نجد الكثير من المثقفين اليوم يتفقون مع راسل في موقفه المتطرف. لقد آثار الكثيرون شكوكاً عن يسوع المسيح فشَّكك البعض فيما إذا كان ما قاله الكتاب المقدس عنه صحيحاً، ولكن من ادَّعوا أنه لم يعش قط أو أنه لو كان قد عاش فإننا لا نستطيع أن نعرف عنه شيئاً هم فئة قليلة جداً. حتى أن توماس بِين الثوري الأمريكي الذي وضع المسيحية موضع الازدراء لم يشكك في الشخصية التاريخية ليسوع الناصري.
وبينما كان بِين يعتقد أن النصوص الكتابية الخاصة بألوهية يسوع نصوصاً أسطورية، الإ أنه في الوقت نفسه يعتقد أن يسوع عاش فعلاً. وهو يقول: «كان (يسوع المسيح) رجلاً فاضلاً ومحبوباً. والأخلاقيات التي علَّم بها ومارسها كانت من أسمى الأخلاقيات، ورغم أن هناك نظماً مماثلة للأخلاقيات دعا إليها كونفشيوس وبعض فلاسفة اليونان قبل المسيح، وفيما بعد طائفة الإخوة، وغير ذلك من المعلمين الصالحين في كل العصور، فإن هذه الأخلاقيات جميعاً لم تصل إلى هذه الدرجة من السمو». (Paine, CWTP, 9).
إلا أنني أحياناً أجد شخصاً مثل راسل يصرّ على إنكار أن يسوع كان شخصية تاريخية رغم وجود الأدلة على ذلك. وقد حدث ذلك مرة أثناء مناظرة أشرف عليها اتحاد طلاب إحدى جامعات غرب أمريكا. قالت محاوِرتي، مرشحة الكونجرس لحزب العمل التقدمي (الماركسي) في نيوريوك، في كلمتها الافتتاحية: «يرفض المؤرخون اليوم يسوع باعتباره شخصية تاريخية»، ولم أستطع أن أصدق ما سمعت. ولكنني كنت سعيداً بما قالته لأنها أتاحت لي الفرصة أن أبيِّن لألفين وخمسمائة طالب وطالبة أنها لم تدرس التاريخ جيداً. ولو أنها فعلت لاكتشفت أن ف. ف. بروس، أستاذ التفسير والنقد الكتابي بجامعة مانشستر قال: «ربما يعبث الكُتَّاب بالأفكار الخيالية التي تتحدث عن «أسطورة المسيح»، ولكنهم لا يفعلون ذلك على أساس البراهين التاريخية. إن حقيقة المسيح التاريخية تُعَدُّ أمراً محورياً بالنسبة للمؤرخ المنصف كحقيقة يوليوس قيصر التاريخية. فليس المؤرخون هم الذين يروِّجون لنظريات
«أسطورة المسيح». (Bruce, NTDATR, 72,119).
كان أوتو بيتس محقاً عندما قال: «لم يجازف أي عالم جاد بافتراض عدم تاريخية شخصية يسوع» (Betz, WDWKAJ, 9).
إن شخصية يسوع التاريخية ليست مسألة ذات أهمية ثانوية بالنسبة للمسيحي، فالإيمان المسيحي يرتكز على التاريخ. ويشيردونالد هاجنر أحد علماء العهد الجديد إلى ما يلي:
تعتمد المسيحية الحقيقية، مسيحية نصوص العهد الجديد، على التاريخ اعتماداً كلياً. فجوهر إيمان العهد الجديد التأكيد على أن «الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه» (2كو 5: 19). وتعد أحداث تجسد المسيح وموته وقيامته كأحداث حقيقية زمانياً ومكانياً، أي كحقائق تاريخية، أسساً لا غنى عنها للإيمان المسيحي. ومن ثم فإن أفضل تعريف للمسيحية في رأيي هو ذكر أعمال الله التاريخية والاحتفال بها والمشاركة فيها، وهذه الأعمال، كما يؤكد على ذلك العهد الجديد، تكمل في يسوع المسيح. (Hagner, NTCI, 73, 74)
ويشتمل هذا الفصل على براهين من المصادر المسيحية والعلمانية واليهودية لحياة المسيح.
1(أ) المصادر العلمانية لشخصية يسوع التاريخية
وأقصد بالعلمانية هنا «الوثنية» أو غير المسيحية وغير اليهودية وهي عادة ضد المسيحية. لقد أشار الكثير من الكُتَّاب القدماء إلى يسوع والحركة التي قام بها. وكونهم أعداء للمسيحية في أغلب الأحيان يجعل منهم أفضل الشهود إذ ليس لهم مصلحة في الاعتراف بالأحداث التاريخية الخاصة بقائد ديني وأتباعه وهي الأحداث التي يزدرونها.
1(ب) كرنيليوس تاسيتوس
قال هابرماس : كان كرنيليوس تاسيتوس (حوالي 55- 1200م) مؤرخاً رومانياً عاصر حكم بضعة أباطرة رومان. وقد أطلق عليه اسم «المؤرخ الأعظم» في روما القديمة. وهو معروف بوجه عام بين العلماء باستقامته الأخلاقية وصلاحه. (Habermas, VHCELJ, 877)، ومن أعماله الشهيرة «الحوليات» «والتواريخ». وتغطي «الحوليات» الفترة من موت أوغسطس عام 14م إلى موت نيرون عام 68م، بينما تبدأ «التواريخ» بعد موت نيرون وتصل إلى موت دوميتيان عام 96م. (Habermas, VHCELJ, 87)
وفي حديثه عن حكم نيرون، يشير تاسيتوس إلى موت المسيح ووجود المسيحيين في روما. وقد أخطأ في هجاء كلمة المسيح «Christus» وكان هذا خطأً شائعاً لدى الكُتَّاب الوثنيين. يقول تاسيتوس:
إن كل العون الذي يمكن أن يجيء من الإنسان، وكل الهبات التي يستطيع أن يمنحها أمير، وكل الكفارات التي يمكن أن تقدم إلى الآلهة، لا يمكن أن تعفي نيرون من جريمة إحراق روما. ولكي يسكت الأقاويل اتَّهم نيرون الذين يدعون «مسيحيين» ظلماً بأنهم أحرقوا روما، وأنزل بهم أقسى العقوبات. وكانت الأغلبية تكره المسيحيين، أما المسيح -مصدر هذا الاسم- فقد قُتل في عهد الوالي بيلاطس البنطي حاكم اليهودية في أثناء سلطنة طيباريوس. ولكن هذه البدعة الشريرة التي أمكن السيطرة عليها بعض الوقت عادت وانتشرت من جديد، لا في اليهودية فقط حيث نشأ هذا الشر، ولكن في مدينة روما أىضاً. (Annals XV, 44).
ويرى نورمان أندرسون أن هناك إشارة إلي قيامة المسيح في الفقرة السابقة: ربما كان قوله «هذه البدعة الشريرة التي أمكن السيطرة عليها بعض الوقت عادت وانتشرت من جديد» إشارة غير مباشرة واعتراف غير مقصود باعتقاد الكنيسة الأولى في أن المسيح الذي صُلب قد قام من الأموات. (Anderson, JC, 20)
ويشير ف.ف. بروس إلى أمر آخر ثانوي في فقرة تاسيتوس السابقة: «لا يُذكر بيلاطس في أي وثيقة وثنية أخرى وصلت إلينا.. ولعل من مفارقات التاريخ أن الإشارة الوحيدة الباقية لبيلاطس في كتابات كاتب وثني تأتي بسبب حكم الموت الذي أصدره على المسيح. وهنا يتفق تاسيتوس مع عقيدة المسيحيين الأوائل بالقول: «...قُتل في عهد بيلاطس البنطي» (Bruce, JCOCNT, 23)
أما ماركوس بوكمول الأستاذ بجامعة كمبريدچ فيشير إلى أن تعليقات تاسيتوس تعد شهادة لمؤرخ روماني رائد في عصره: شهادة مستقلة بأن يسوع عاش وحُكم عليه رسمياً بالموت في اليهودية أثناء سلطنة طيباريوس وولاية بيلاطس البنطي. وقد لا تبدو عنده الشهادة ذات أهمية كبيرة، ولكن أهميتها تكمن في دحض اثنتين من النظريات التي مازال البعض يطرحها. أولاً: أن يسوع الناصري لم يكن شخصية حقيقية، وثانياً: أنه لم يمت بموجب عقوبة الموت الرومانية. (Beckmuehl, TJMLM, 10, 11)
2(د) لوسيان الساموساطي
وهو من كُتَّاب الهجاء اليونانيين في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي، وقد تحدث بازدراء عن المسيح والمسيحيين ولكنه لم يفترض أو يشكك مطلقاً في هذه الحقائق. ويقول لوسيان: إن المسيحيين كما نعلم يعبدون إلى هذا اليوم رجلاً ذا شخصية متميزة، وقد استحدث الطقوس الجديدة التي يمارسونها والتي كانت عَّلة صلبه... انظر كيف يعتقد هؤلاء المخدوعون أنهم خالدون مدى الدهر، وهو ما يفسر احتقارهم للموت وبذْل الذات طواعية وهو أمر شائع بينهم، وهم أيضاً يتأثرون بمشرِّعهم الأصلي الذي قال لهم إنهم جميعاً إخوة من اللحظة التي يتحولون فيها وينكرون كل آلهة اليونان ويعبدون الحكيم المصلوب ويعيشون طبقاً لشرائعه. وهم يؤمنون بهذه كلها مما يؤدي بهم إلى احتقار كل متعلقات الدنيا على حد سواء واعتبارها متاعاً مشتركاً للجميع (Lucian, the Death of Peregrine, 11- 13)
3(ب) سيوتونيوس
سيوتونيوس هو أحد المؤرخين الرومان وواحد من رجال بلاط الامبراطور هادريان وكان مؤرخاً حولياً للقصر الملكي، ويقول في كتابه «حياة كلوديوس»: لما كان اليهود يقومون بأعمال شغب مستمرة بتحريض من المسيح، طردهم (كلوديوس) من روما. ويشير لوقا إلى هذا الحدث في أعمال 18: 2، وهو ما وقع في عام 49م.
وفي أحد مؤلفاته الأخرى كتب سيوتونيوس عن الحرائق التي اجتاحت روما عام 64م أثناء حكم نيرون. يقول سيوتونيوس: لقد فرض نيرون العقوبات على المسيحيين، وهم جماعة من الناس يتبعون بدعة شريرة جديدة. (Lives of the Caesars, 26.2)
ويعتقد سيوتونيوس -الذي لم يكن محباً للمسيحية- أن يسوع صُلب في أوائل الثلاثينات من عمره وأن المسيحيين قد وُجدوا في المدينة الملكية قبل مرور عشرين عاماً من ذلك الوقت. وهو يحكي عن معاناتهم وموتهم بسبب عقيدتهم في أن يسوع المسيح قد عاش ومات وقام من الأموات حقاً.
4(ب) بلـّيني الصغير
وكان حاكماً لبيثينية في آسيا الصغرى (112م)، وكتب للإمبراطور تراچان يستشيره في كيفية معاملة المسيحيين. وقد أوضح له أنه كان يقتل الرجال والنساء، والصبية والفتيات منهم. ولما كان الكثير منهم يُقتلون، فقد تساءل فيما إذا كان ينبغي له الاستمرار في قتل أي شخص يكتشف أنه مسيحي أو أن يقتل فقط أشخاصاً معينين. وأوضح أيضاً أنه جعل المسيحيين يسجدون لتماثيل تراجان: ويواصل بلِّيني قائلاً: إنه جعلهم يلعنون المسيح، وهو الأمر الذي لا يقبله المسيحي الحقيقي. وفي نفس الرسالة يحكي عن الذين حوكموا: إلا أنهم أكدوا أن ذنبهم أو خطأهم الوحيد هو أنه كانت لهم عادة أن يجتمعوا في يوم معين قبل بزوغ النهار ويرنموا ترنيمة للمسيح، كما لو كان إلهاً، ويتعهدوا عهد الشرف ألا يرتكبوا شراً أو كذباً أو سرقة أو زناً، وألا يشهدوا بالزور وألا ينكروا الأمانة متى طُلب منهم أن يؤدوها. (Epistles X, 96)
5(ب) ثالوس
وثالوس هو أحد أوائل الكتَّاب العلمانيين الذين ذكروا المسيح. وحوالي عام 52م كتب تاريخاً لمنطقة شرق البحر المتوسط بدءاً من حرب تروجان إلى عصره (Habermas, VHCELJ, 93)، ولسوء الحظ فإن كتاباته غير متوفرة الآن إلا ما اقتبسه عنه الكُتَّاب الآخرون. ومن أمثال هؤلاء يوليوس أفريكانوس، وهو كاتب مسيحي دوَّن أعماله حوالي عام 221م. ومن أهم ما سجَّله ثالوس تعليقه على الظلمة التي غطت الأرض وقت الظهر عندما مات يسوع على الصليب. ويقول أفريكانوس: «يفسر ثالوس هذه الظلمة بحدوث كسوف للشمس- وهذا التفسير غير معقول من وجهة نظري لأن الكسوف الشمسي لا يمكن أن يحدث وقت اكتمال القمر، وكان ذلك الوقت هو وقت عيد الفصح عند اكتمال القمر عندما مات المسيح. (Julius Africanus, Chronography, 18.1)
وتبين هذه الإشارة أن رواية الإنجيل عن الظلمة التي غطت الأرض أثناء صلب المسيح كانت معروفة لغير المسيحيين، وحاولوا أن يوجدوا تفسيراً طبيعياً لها. ولم يكن لدى ثالوس أدنى شك في أن يسوع قد صُلب وأن حدثاً غير عادي قد ظهر في الطبيعة ولابد له من تفسير. وما شغل تفكيره هو أن يجد تفسيراً مختلفاً، أما الحقائق الأساسية فلم تكن موضع شك. (Bruce, NTDATR, 113)
6(ب) فليجون
كتب فليجون، وهو أحد المؤرخين غير المسيحيين الثقاة، تاريخاً سمَّاه «أخبار الأيام» ورغم ضياع هذا العمل، إلا أن يوليوس أفريكانوس قد احتفظ ببعض أجزائه القليلة في كتاباته. ومثل ثالوس فإن فليجون، يؤكد أن الظلمة خيَّمت على الأرض وقت صْلب المسيح، وهو يعتبر ذلك كسوفاً شمسياً: «وأثناء حكم طيباريوس قيصر حدث كسوف للشمس وقت اكتمال القمر» (Africanus, Chronography, 18.1)
كما ذكر إشارة فليجون هذه أيضاً كل من أوريجانوس، المدافع المسيحي الذي عاش في القرن الثالث (Contra Celsum, 2.14, 33, 59) والكاتب فلـيوبون من القرن السادس (De. Opif. Mund II 21). (McDowell/ Wilson, HWAU, 3)
7(ب) مارا بار- سيرابيون
وحوالي عام 70 م، كتب مارا بار- سيرابيون، وهو سرياني ولعله كان فيلسوفاً رواقياً، رسالة وهو في السجن إلى ابنه يشجعه على السعي في أثر الحكمة. وفي رسالته يقارن بين يسوع واثنين من الفلاسفة هما سقراط وفيثاغورس كتب يقول:
أية فائدة جناها الأثينيون من قتل سقراط؟ لقد أتى عليهم الجوع والوبأ جزاءً لجرمهم. وأية فائدة جناها أهل ساموس من حرق فيثاغورس؟ لقد غطت الرمال أرضهم في لحظة. وأية فائدة جناها اليهود من قتل ملكهم الحكيم؟ لقد تلاشت مملكتهم عقب ذلك. لقد انتقم الله بعدل لهؤلاء الرجال الثلاثة الحكماء: فقد مات الأثينيون جوعاً وغطَّى البحر سكان ساموس وطُرد اليهود من بلادهم حيث عاشوا في الشتات. ولكن سقراط لم يمت إلى الأبد ولكنه عاش في تعاليم أفلاطون ولم يمت فيثاغورس إلى الأبد، فقد عاش في تمثال هيرا. ولم يمت الملك الحكيم إلى الأبد، ولكنه عاش في التعاليم التي أعطاها. (Bruce, NTDATR, 114)
ومن المؤكد أن هـذا الأب لم يكن مسيحياً، لأنه وضع يسوع على قدم المساواة مع سقراط وفيثاغورس، وهو يعتبر يسوع حياً في تعاليمه وليس في قيامته، وفي موضع آخر يشير إلى إيمانه بتعدد الآلهة. إلا أن إشارته للمسيح تبيِّن أنه لم يشك في أن يسوع عاش حقاً.
2(أ) الإشارات اليهودية عن شخصية يسوع التاريخية
لقد وجد العلماء الكثير من الإشارات الموثوقة عن يسوع، كما وجدوا أيضاً مصادر أخرى غير موثوقة أو مصادر كان يعتقد قبلاً أنها تشير إلى يسوع (McDowell/ Wilson, HWAU, 55- 70) وقد اخترت بعضاً من أهم تلك المصادر الموثوقة هنا لإلقاء الضوء عليها. ويمكنك أن تجد المزيد منها في الفصل الثالث من كتابي: «سار بيننا: برهان شخصية يسوع التاريخية»
وكما هو الحال في المصادر العلمانية، فإن المصادر اليهودية القديمة معادية لمؤسس المسيحية وأتباعها ومعتقداتها. ولهذا السبب فإن شهادتها للأحداث الخاصة بحياة يسوع تعد ذات قيمة كبيرة بالنسبة للموثوقية التاريخية لهذه الأحداث.
1(ب) الصلب
نقرأ في التلمود البابلي ما يلي: عُلِّق (صُلب) يسوع في ليلة الفصح. ولمدة أربعين يوماً قبل تنفيذ الحكم سار المنادي معلناً: «إنه سوف يُرجم لأنه مارس السحر وضلل إسرائيل. وأي شخص يمكنه أن يدلي بأي شيء في مصلحته فليتقدم للدفاع عنه». ولكن إذ لم يكن هناك ما يمكن أن يبرئه فقد عُلِّق في ليلة الفصح.(Sanhedrin 43a; cf. t. Sanh. 10: 11; y. Sanh 7: 12; Tg. Esther 7: 9)
وفي موضع آخر ذكر فيه هذا النصّ يذكر «يسوع الناصري». وكلمة «Yeshu» تترجم من اليونانية إلى الإنجليزية بكلمة «يسوع» Jesus، والإشارة إليه بكلمة «الناصري» يعد دليلاً قوىاً على أنه يشير إلى يسوع المسيح.
فضلاً عن ذلك فإن كلمة «عُلِّق» هي تعبير آخر للإشارة إلى الصلِّب (انظر لوقا 23: 39، غلاطية 3: 13). ويقول چوزيف كلاوسنر العالم اليهودي: «يتحدث التلمود عن التعليق بدلاً من الصلب، لأن هذه الوسيلة الرومانية المريعة للقتل لم تكن معروفة لدى العلماء اليهود إلا من خلال المحاكمات الرومانية، ولم تكن موجودة في النظام القضائي اليهودي. كما أن الرسول بولس (غلاطية 3: 13) يطبق الآية التالية: «لأن المعلَّق ملعون من الله» (تثنية 21: 23) على يسوع» (Klausner, JN, 28).
كما أن الإشارة إلى حدوث الصلب «في ليلة عيد الفصح» تتفق مع (يوحنا 19: 14) (وهـي موجودة في b. Sanh. 67a ; y. 4. Sanh. 7: 16)
ومن ثم فإن هذا النص يؤكد بوضوح الموثوقية التاريخية لشخصية يسوع وموته. كما يؤكد أن السلطات اليهودية تورطت في الحكم عليه، ولكن ثمة محاولة لتبرير ذلك. وبشكل غير مباشر يشهد هذا النص لمعجزات يسوع. ولكنه يحاول أن يفسرها كأعمال سحرية، كما ذكره كُتَّاب الإنجيل أيضاً (مرقس 3: 22، متى 9: 34، 12: 24). (Klausner, JN, 23).
وبعد هذا النص اليهودي يظهر تعليق آخر لـ «أولا أمورا» Ammora, Ulla في أواخر القرن الثالث يقول: «هل تظن أنه كان يمكن البحث عن أي دفاع له؟ لقد كان مخادعاً، ويقول الله كلي الرحمة: «لا ترقّ له ولا تستره». ولكن الأمر كان مختلفاً بالنسبة ليسوع، لأنه كان قريباً من الملك». ربما كانت العبارة «قريباً من الملك» تشير إلى نسب يسوع الذي ينحدر من الملك الإسرائيلي داود، أو ربما كانت تدل على غسل بيلاطس ليديه قبل أن يسلم يسوع للجلد والصلب.
2(ب) يسوع وتلاميذه
وفي فقرة تلمودية لاحقة للفقرة الخاصة بصلب يسوع نقرأ: «يسوع كان له خمسة تلاميذ متاي ونكاي ونيتسر وبوني وتودا». (b. Sanh. 107b). وبينما يمكن أن يشير «متاي» إلى متَّى، فإنه لا يمكن لأحد الجزم بأن أي من الأسماء الأخرى تشير إلى أي تلميذ آخر ذُكر في الإنجيل. أما القول بأن يسوع كان له خمسة تلاميذ فيمكن فهمه في ضوء إشارة التلمود لغيره من المعلمين مثل يوحنان بن زكاي وأكيبا، بأن كان لكل منهما خمسة تلاميذ. (McDowell/ Wilson, HWAU, 65). وعلى أي حال فهناك شيء واحد مؤكد وهو أن هذا النصّ يشير بوضوح إلي أن التقليد اليهودي قد أقرَّ بأن المعلم يسوع كان له أتباع.
3(ب) مولود من عذراء؟
في التلمود تُستخدم الألقاب التالية للإشارة إلى يسوع: «ابن بانديرا» (أو ابن بانتيرا) وعن «يسوع بن بانديرا». ويقول الكثير من العلماء إن «بانديرا» هي كلمة محوَّرة للكلمة اليونانية «بارثينوس» التي تعني عذراء. ويقول العالم اليهودي چوزيف كلاوسنر: «كان اليهود يسمعون المسيحيين (ومعظمهم كان يتحدث اليونانية منذ عصر مبكر) يطلقون على يسوع اسم «ابن العذراء»... ولذلك فقد أطلقوا عليه تهكماً اسم (ابن ها بنيترا) أي «ابن النمرة» (Klausner, JN, 23).
ويقول التلمود البابلي في موضع آخر: قال ر. شمعون بن عزي (عن يسوع): «وجدت في سجل للأنساب في أورشليم مكتوباً فيه أن هذا الإنسان كان ابناً غير شرعي لامرأة زانية». (b. Yebamoth 49a, m. yebam. 4). وفي فقرة أخرى نقرأ: «كانت مريم أمه مصففة شعر للنساء وقيل إنها.. ضلت عن زوجها» (b.Sabb. 104b) وفي موضع آخر نقرأ أن مريم «سليلة الأمراء والحكام مارست البغاء مع النجارين» (b. Sanh 106a) وهذه العبارة بالطبع هي محاولة لتفسير العقيدة المسيحية لميلاد يسوع العذراوي (انظر أيضاً b. Sabb. 104b). وربما يقصد بعبارة «الأمراء والحكَّام» بعض الأسماء التي وردت في سجل النسب الذي ذكره لوقا، الذي قال عنه بعض آباء الكنيسة أنه سجَّل نسب مريم حتى الملك داود (قارن ذلك مع عبارة: «يسوع... كان قريباً من الملك» في (b. Sanh. 463a). والإشارة إلى النجارين هي إشارة واضحة ليوسف. انظر أيضاً (b. Sabb. 104b).
وتفترض النصوص السابقة ما يلي: لو أن يوسف لم يكن أباً ليسوع، إذاً فحبَل مريم كان من رجل آخر، وبذلك فهي زانية ويسوع هو ابنها غير الشرعي. ويسجل لنا العهد الجديد توجيه الكتبة والفريسيين بشكل غير مباشر هذه التهمة ليسوع (يوحنا 8: 41).
ومع تأكيد العهد الجديد بأن هذا الاتهام لا أساس له، إلا أن هذا الاتهام يؤكد أن العقيدة المسيحية للميلاد المعجزي ليسوع كانت عقيدة الكنيسة الأولى وأحدثت رد فعل مضاد. ويلاحظ أن رد الفعل هذا لا يتضمن إنكار وجود يسوع- ولكن فقط تفسيراً مختلفاً للحبَل به. ويقول كلاوسنر: «ولتأييد أقوال ر. يهوشع، أضافت الطبعات الحديثة من المشنا ما يلي: من هو الابن غير الشرعي؟ هو أي إنسان تأمر الشريعة بقتل أبويه. ليس من شك في أن الإشارة هنا إلى يسوع» (Klausner, JN, 35).
4(ب) شهادة يوسيفوس
كتب الأستاذ چون ب. ماير يقول إن يوسيفوس ابن ماتتياس (وُلد 37 / 38 م ومات بعد عام 1000م) كان أرستقراطياً يهودياً وسياسياً من نسل الكهنة وقائداً غير متحمس للقوات الثورية في الجليل أثناء الثورة اليهودية الأولى على روما (66- 733م)، ومرتداً مخادعاً، ومؤرخاً يهودياً يعمل في كنف الأباطرة في عصره وفريسياً بحسب الظاهر. ولما أسره فسباسيان عام 67، عمل في خدمة الرومان كوسيط ومترجم إبان الثورة. وأُحضر إلي روما حيث ألَّف اثنين من أعماله العظيمة: «الحروب اليهودية» الذي كُتب في نهاية السبعينيات، «آثار اليهود» وهو مؤلَّف أكبر حجماً أنهاه حوالي 93 / 94 م. (Meier, BR, 20, 22).
أصبح فلافيوس يوسيفوس جزءًا من الحاشية الداخلية للامبراطور وقد أعطوه اسم (فلافيوس) كاسم روماني له، وهم اسم الامبراطور. أما يوسيفوس فهو اسمه اليهودي.
وفي كتابه «آثار اليهود»، هناك فقرة أحدثت جدلاً عنيفاً بين العلماء، وهي كالآتي:
«كان في ذلك الوقت رجل حكيم اسمه يسوع، لو كان لنا أن ندعوه رجلاً، لأنه كان يصنع العجائب وكان معلماً لمن كانوا يتقبلون الحق بابتهاج. وجذب إليه الكثيرين من اليهود والأمم على حد سواء. وكان هو المسيح.
وعندما أصدر بيلاطس الحكم عليه بالصلب، بإيعاز من رؤسائنا، لم يتركه أتباعه الذين أحبوه من البداية، إذ أنه ظهر لهم حياً مرة أخرى في اليوم الثالث، كما تنبأ أنبياء الله عن هذه الأشياء وعن آلاف الأشياء العجيبة المختصة به. وجماعة المسيحيين، المدعوين على اسمه، مازالوا موجودين حتى هذا اليوم. (Antiquities, XVIII, 33
ولن أتطرق هنا إلى الآراء المختلفة التي تبناها العلماء بخصوص هذه الفقرة التي أصبحت تُعرف باسم «الشهادة» Testimonium. للمزيد من التفاصيل عن الجدل القائم حولها، يمكن الرجوع لكتاب «سار بيننا» والصفحات 37 - 45. ولكنني أحب أن أنوِّه هنا إلى أن هذه الفقرة أثارت ضجة لأن يوسيفوس، وهو يهودي وليس مسيحياً، يقر عن المسيح أشياءً - لا يمكن ليهودي صحيح المذهب أن يقر بها - فهو يشير مثلاً إلى يسوع باعتباره المسيح (المسيا) ويقول إنه قام من الأموات كما تنبأ عنه الأنبياء العبرانيون.
وفي تقديري فإنني أوافق العلماء الذين يرون أنه على الرغم من بعض الإضافات المسيحية- وهي المطبوعة بحروف مائلة في الفقرة السابقة- التي دخلت على النص كما هو واضح، إلا أن هذه الشهادة تتضمن قدراً كبيراً من الحقيقة التي يمكن ليوسيفوس أن يقرّ بها بسهولة. ويقول ماير:
اقرأ هذه الشهادة دون العبارات المائلة وسوف ترى أن تسلسل الفكرة واضح. إن يوسيفوس يدعو يسوع بأنه «رجل حكيم» (باليونانية Sophos anصr ولعلها بالعبرية Khakham). ويمضي يوسيفوس ليوضح هذه التسمية العامة (رجل حكيم) بمقوَّمين أساسيين لها في العالم اليوناني الروماني: صنع المعجزات والتعليم المؤثر. إن هذه السمة المزدوجة للحكمة تربح ليسوع الكثير من الأتباع من اليهود والأمم، وربما أيضاً -رغم عدم ذكر ذلك بوضوح- كان هذا النجاح العظيم هو الذي حرَّك القادة لاتهام يسوع أمام بيلاطس. ورغم موت العار الذي ماته يسوع على الصليب، إلا أن أتباعه الأولين لم يتخلوا عن إخلاصهم له، ومن ثم (ولاحظ هنا أن تسلسل الفكرة أفضل دون الإشارة إلى القيامة في العبارة المحذوفة) فإن جماعة المسيحيين لم تختف(Meier,BR,23).
وبعد هذه الشهادة بعدة فقرات، يشير يوسيفوس إلى يعقوب أخي يسوع. وهو يصف أفعال رئيس الكهنة حنان (Antiquities XX, 9.1):
«ولكن حنَّان الصغير الذي، كما قلنا، تولى رئاسة الكهنة كان جريئاً وشجاعاً على نحو خاص. وكان يتبع شيعة الصدوقيين، الذين كانوا قساة في أحكامهم فوق كل اليهود، كما سبق وأوضحنا. ولما كان الحال هكذا، فقد كان حنَّان يعتقد أن الفرصة أصبحت مواتية بعد موت فستوس وقبيل قدوم ألبينوس، ومن ثم فقد جمع كل مجمع السنهدريم من القضاة وأحضر أمامهم يعقوب، وهو أخو يسوع المسمى المسيح، وآخرون معه، وبعد أن وجَّه إليهم الاتهام بمخالفة الناموس، سلَّمهم للرجم». (Bruce, NTDATR, 107).
ويقول لويس فيلدمان، أستاذ الأدب الكلاسيكي في جامعة يشيفا ومترجم طبعة «ليب» لكتَّاب «الآثار اليهودية»: «لقد شك القليلون في أصالة هذه الفقرة» (Josephus, Antiquities, Loeb, 496). إن الإشارة العابرة ليسوع بقوله: «المسمى المسيح» ليست ذات معنى لو لم يكن يوسيفوس قد أفرد مساحة أطول للحديث عن يسوع قبل ذلك في آثاره. وهذا دليل آخر على أصالة هذا الحديث السابق والأكثر شمولاً، إذا ما استثنينا العبارات المسيحية الدخيلة على النصَّ.
ومن ثم فإننا نرى أن المؤرخ اليهودي العظيم في القرن الأول يوسيفوس، وهو يكتب بعد حوالي نصف قرن أو أكثر من حياة المسيح وصلْبه، يشهد لحقيقة أن يسوع لم يكن اختلاقاً أتت به الكنيسة ولكن شخصية تاريخية حقيقية.
3(أ) المصادر المسيحية لشخصية يسوع التاريخية
1(ب) اعترافات الإيمان المسيحي قبل كتابة العهد الجديد
كان المسيحيون الأوائل كثيراً ما يدفعون حياتهم أو يعانون الاضطهاد الشديد ثمناً لشهادتهم بأن يسوع عاش ومات وقام من الأموات وظهر لكثيرين بعد قيامته. ولم يكونوا ليَجْتنون أي شيء من وراء ذلك بل كانوا يخسرون كل شيء ثمناً لشهادتهم بحقيقة هذه الأمور. ولهذا السبب فإن شهاداتهم تعدُّ من أهم المصادر التاريخية.
وبين دفتي العهد الجديد، تعرَّف العلماء الكتابيون على ما يعتقدون أنه بعض أجزاء اعترافات الإيمان المسيحي المبكِّر التي صيغت وتناقلت شفهياً قبل تدوينها في أسفار العهد الجديد بسنوات. ويوضح المدافع المسيحي جاري هابرماس أن هذه الشهادات «تحفظ بعض الأحداث الأولى الخاصة بيسوع حوالي 30- 500م. ولذلك فهذه العقائد تضمُ أموراً سابقة على العهد الجديد، وهي مصادرنا الأولى لحياة يسوع» (Habermas, VHCELJ,119).
في كتابه «حكم التاريخ» يسلط هابرماس الضوء على عدة شهادات عقائدية متضمنة في العهد الجديد:
- لوقا 24: 34
«الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان»
وبالإشارة إلى چوكيم جرمياس وبحثه: «القيامة: التقليد الأول والتفسير الأول»، كتب هابرماس يقول: «يذهب جرمياس إلى أن إشارة لوقا المختصرة لقيامة يسوع وظهوره لبطرس في (لوقا 24: 34) أقدم مما ذكر في (1كورنثوس 15: 55)، مما يجعلها شهادة مبكرة جداً لظهورات ما بعد القيامة» (Habermas, VHCELJ, 122)
- (رومية 1: 3و 4)
«ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد وتعيّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات».
يقول هابرماس:
في (رومية 1: 3، 4) نرى عقيدة قديمة سابقة على بولس من خلال التوازي بين العبارات وهي ما تتضح من خلال المقابلة بين يسوع ابن داود وابن الله في ذات الوقت. فيسوع الذي وُلد في ذلك الزمان والمكان هو نفسه الذي قام من الأموات. وفحوى هذه العقيدة هو أن يسوع أُظهر كابن الله والمسيح (أو المسيا) والرب، وتبرهن ذلك بقيامته من الأموات. ويضيف أوسكار كلمان «إن الفداء ومجد يسوع النهائي كان جزءًا من شهادة الإيمان المسيحي» . وهذه العبارة الجامعة التي تحتوي على ثلاثة ألقاب رئيسية للمسيح وتدل على بعض أعمال يسوع، لا تعلن فقط إحدى العقائد الأولى في طبيعة المسيح، ولكن تتميز أيضاً بسمة دفاعية إذ تربط هذه العقيدة اللاهوتية ببرهان قيامة يسوع. (قارن ذلك مع أعمال 2: 22) (Habermas, VHCELJ, 123).
- (رومية 4: 24و 25)
«.... بمن أقام يسوع ربنا من الأموات. الذي أسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا».
ويعتقد الناقد الكتابي رودلف بولتمان أن هذا الإقرار كان موجوداً على ما يبدو قبل بولس وقد تسلَّمه كجزء من التقليد المسيحي الرسولي الأول. (Bultmann, TNT, 82)
- (رومية 10: 9 و10)
«لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت. لأن القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به للخلاص».
وربما كانت شهادة الإيمان هذه ينطق بها المؤمنون عند عمادهم في الكنيسة الأولى. وتربط هذه الشهادة بين الإيمان بالحقيقة التاريخية لقيامة يسوع وبين الاعتراف به رباً ومخلصاً. (Habermas, VHCELJ, 123, Martin, WEC, 108, Martin, DPHL, 192)
1كورنثوس 11: 23- 26
«لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً إن الرب يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء».
ويقول هابرماس
تقدم لنا كلمات بولس في (1كورنثوس 11: 23) وما بعدها تقليداً ثابتاً ربما كان يعتمد على مصادر مستقلة عن مصادر الأناجيل. ويشير جرمياس إلى أن قول بولس «تسلمت» و «سلَّمتكم» ليست من التعبيرات الخاصة به ولكنها تمثل «المصطلحات الفنية لمعلمي اليهود» للإشارة إلى انتقال التقليد. بالإضافة إلى ذلك هناك عبارات أخرى لا تنتمي إلى أسلوب بولس مثل «أسْلِم»، «شكر»، «جسدي» (1كو 11: 23، 24). وهذه تؤكد الطبيعة المبكرة لهذا التقليد. ويؤكد جرمياس على أن هذه النصوص قد صيغت «في فترة مبكرة جداً قبل بولس... فهي صيغة سابقة على بولس. وتوضح كلمات بولس أن تسلسل التقليد يرجع إلى يسوع دونما انفصال» (Habermas, VHCELJ, 121).
- (1كورنثوس 15: 3- 5)
«فإنني سلَّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب. وأنه ظهر لصفا ثم للاثنى عشر».
يذكر العالم الكتابي رالف مارتين بعض العلامات التي تميز هذه الفقرة «كصيغة عقائدية» سابقة على كتابات بولس:
إن العبارات الأربع التي تبدأ كل منها بكلمة «أن» تمثل مقِّومات هذه العقيدة (في الآيات 3 و4 و5). والمفردات اللغوية هنا غير معتادة، فهي تشتمل على تعبيرات وكلمات نادرة الاستعمال ولا يستعملها بولس في أي موضع آخر.
وفي بداية الفقرة نعرف أن بولس قد «قَبِلَ» ما يذكره في عباراته التالية كجزء من التعليم الذي تلقَّاه بلا شك في أيام تلمذته الأولى، وربما كان ذلك من خلال اتصاله بالكنيسة في أورشليم وأنطاكية ودمشق. وبدوره الآن يسلِّم كنيسة كورنثوس ما تسَّلمه كتقليد مقدس. (وهو يستخدم نفس التعبيرات اللغوية التي استخدمها في 1كورنثوس 11: 23). ويحسم بولس الأمر بشأن أصل هذه العبارات في الآية حيث يشير إلى إقراره بالدعوة المشتركة للرسل: «فسواء أنا أم أولئك هكذا نكرز وهكذا آمنتم».
وهناك مؤشرات في هذا النصّ نفسه إلى أن الفقرة المذكورة بدءاً من (1كورنثوس 15: 3) هي ترجمة يونانية لنصّ آرامي. ومن أوضح هذه المؤشرات ذكر بطرس باسم صفا والإشارة مرتين إلى أسفار العهد القديم. ويقول العالم جرمياس مؤكداً أن هذه الآيات نشأت في وسط يهودي مسيحي، كما ذهب أحد العلماء الاسكندنافيين مؤخراً إلى أن هذه العقيدة المسيحية قد انبثقت من الكنيسة الأولى في فلسطين. وهي تمثل، على حد قوله «لوجوس (أي إقرار الإيمان) وضعه جماعة الرسل في أورشليم»... وإن صحَّ ذلك، فمن الواضح أن هذه الفقرة تنتمي إلى الأيام الأولى المبكرة جداً للكنيسة وهي، على حد قول إ. ماير «أقدم وثيقة موجودة للكنيسة المسيحية». فهي ترجع إلى تعاليم المجتمع العبراني المسيحي عقب موت المسيح مباشرة، وربما كانت تمثل ثمرة تعاليم ما بعد القيامة وتعكس نص (لوقا 24: 25- 27،
44- 47). (Martin, WEC, 57- 59)
- (فيلبى 2: 6- 11)
«الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفَّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب».
واضح أن قوانين الإيمان السابقة على كتابات العهد الجديد تقدَّم شهادة مبكرة عن قناعة الكنيسة بأن يسوع الإله المتجسد الذي بلا خطية عاش فعلاً ومات وقام من الأموات وصُعد إلى السماء من أجل خلاص كل إنسان يعترف به رباً ويؤمن بالحقيقة أن الله أقامه.
لقد قال العلماء في هذا النص إنه ترنيمة كانت سابقة لبولس، وإن هذه الترنيمة تعبر عن إقرار الإيمان في شخص يسوع الحقيقي الإنسان والإله في آن واحد. (Habermas, VJCELJ, Do, Martin, WEC, 49, 50)
- (1تيموثاوس 3: 16)
«وبالإجماع عظيم هو سرّ التقوى
الله ظهر في الجسد
تبرر في الروح
تراءى لملائكة
كرز به بين الأمم
أومن به في العالم
رفع في المجد»
وهذه ترنيمة مسيحية أخرى سابقة على كتابات بولس وربما كانت ترتل أثناء العبادة (Martin, WEC, 48, 49).
- 1تيموثاوس 6: 13
«... المسيح يسوع الذي شهد لدى بيلاطس البنطي بالاعتراف الحسن» وطبقاً لرأي هابرماس فإن هذه الفقرة هي أيضاً تقليد مبكر بل وربما كانت جزءاً من اعتراف الإيمان المسيحي الشفهي الأشمل. ويشير هابرماس أيضاً إلى أن العالم فيرنون نويفيلد يشير إلى أن شهادة يسوع ربما كانت رده بالإيجاب على سؤال بيلاطس البنطي عما إذا كان هو ملك اليهود أم لا (انظر مرقس 15: 22). (Habermas, VHCELJ, 122)
- (2تيموثاوس 2: 8)
«اذكر يسوع المسيح المقام من الأموات من نسل داود بحسب إنجيلي».
وهنا نجد المقابلة بين ميلاد يسوع من نسل داود وقيامته من الأموات، وهذا يوضح مرة أخرى اعتناء المسيحية الأولى بربط يسوع بالتاريخ (Habermas, VHCELJ, 120)
- (1بطرس 3: 18)
«فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا البار من أجل الأثمة لكي يقرّبنا إلى الله مماتاً في الجسد ولكن محيي في الروح».
يربط هذا التقليد القديم بين موت يسوع التاريخي على الصليب باعتباره المسيا الذي بلا خطية وبين قيامته التاريخية من الأموات كوسيلة لتقريب الخطاة إلى الله. (Habermas, VHCELJ, 122).
- (1يوحنا 4: 2)
«يسوع المسيح قد جاء في الجسد».
وهذه شهادة موجزة وواضحة سابقة على كتابات يوحنا بأن يسوع المسيح كان شخصاً تاريخياً حقيقياً (Habermas, VHCELJ, 120).
ويشير هابرماس إلى أن هذه الشهادات القديمة بها سبع عشرة إشارة تاريخية على الأقل عن يسوع منذ مولده على الأرض إلى صعوده إلى السماء ومجده:
ومع كون هذه العقائد المسيحية المبكرة عناصر هامة في علم اللاهوت الخاص بطبيعة المسيحية، إلا أنها أيضاً روايات مبكرة عن أحداث حياة يسوع، فمنها نعرف: (1) أن يسوع وُلد حقاً بجسد بشري (فيلبي 2: 6، 1تيموثاوس 3: 16، 1يوحنا 4: 2). (2) من نسل وعائلة داود (رومية 1: 3، 4، 2 تيموثاوس 2: 8). ونجد إشارة إلى معموديته (رومية 10: 9). (4) وأن كلمته بشِّر بها. (5) فأمن به أناس (1تيموثاوس 3: 16).
وبالإضافة إلى الأحداث الخاصة بحياته نعلم أن. (6) يسوع صنع عشاءً. (7) في الليلة التي أسلم فيها. (8) وشكر قبل تناول الطعام. (9) وقدم خبزاً وخمراً. (10) وأعلن بذلك الذبيحة الوشيكة للكفارة عن الخطية (1كو 11: 23). (11) وبعد ذلك وقف يسوع أمام بيلاطس واعترف الاعتراف الحسن. (12) الذي ربما كان بخصوص هويته كملك لليهود (1تي 6: 13). (13) وبعد ذلك قُتل يسوع نيابة عن خطايا البشرية (1بط 3: 18، رو 4: 25، 1تي 2: 6)، (14) وذلك على الرغم من حياة البر التي عاشها (1بط 3: 18). (15) وبعد موته قام من الأموات (لوقا 24: 34، 2تي 2: 8). (16) وهكذا تبرهن شخص المسيح ورسالته (رو 1: 3 و4، 10: 9 و10). (17) وبعد قيامته، صعد يسوع إلى السماء حيث تمجَّد وتعظَّم (1تي 3: 16، فيلبي 2: 6). (Habermas, VHCELJ, 121, 123, 124).
من الواضح أن هذه العقائد السابقة على كتابات العهد الجديد تقدم شهادة مبكرة على عقيدة الكنيسة في يسوع، الإله - الإنسان الذي عاش ومات وقام من الأموات وصعد إلى السماء من أجل خلاص كل من يعترف به رباً ويؤمن حقاً أن الله أقامه من الأموات. علاوة على ذلك، فإن بعض هذه العقائد على الأقل، كما سبق وأشرنا، يمكن تتبعها في كلمات يسوع نفسه وفي شهادة الرسل. ومن ثم فإن هذه العقائد ليست فقط من عصر مبكر، ولكنها تعتمد أيضاً على أقوال شهود عيان على حياة يسوع على الأرض.
2(ب) وثائق العهد الجديد
إن الأسفار السبعة والعشرين للعهد الجديد تؤكد وتحقق شخصية يسوع المسيح التاريخية. وقد برهنَّا بالفعل على أن هذه الأسفار يعوَّل عليها من الناحية التاريخية، وعلى ذلك فشهادتها عن يسوع تقدم دليلاً هاماً لا يمكن نفيه على أن يسوع عاش فعلاً، ولا يزال حياً.
ولا عجب في قول چون مونتجمري المؤرخ والعالم القانوني بأن المؤرخ يمكنه أن يعرف أولاً وقبل كل شيء أن وثائق العهد الجديد يمكن الاعتماد عليها في تقديم صورة دقيقة ليسوع. وهو يعرف أن هذه الصورة لا يمكن تقديم تفسير آخر لها عن طريق التمني أو الافتراض الفلسفي أو المناورة الأدبية (Montgomery, HC, 40)
3(ب) كُتَّاب ما بعد العصر الرسولي
بعد العصر الرسولي، نجد ثاني أوسع المصادر المسيحية للطبيعة التاريخية ليسوع في كتابات هؤلاء الذين أتوا في أعقاب الرسل. وبعض هؤلاء الكتَّاب كانوا قادة للكنائس، وبعضهم كانوا معلمين ومدافعين عن العقيدة. وجميعهم كانوا يؤمنون أن يسوع هو ابن الله المتجسد كما أعلنت الأسفار المقدسة وكما علَّم بذلك الرسل.
وفيما يلي بعض من أهم كتاباتهم التي تشير إلى الموثوقية التاريخية ليسوع المسيح.
1(ج) أكليمندس الروماني
كان أكليمندس أسقفاً للكنيسة في روما حوالي نهاية القرن الأول. وكتب رسالة تدعى «أهل كورنثوس» من أجل تسوية الخلاف الذي نشأ في كنيسة كورنثوس بين قادة الكنيسة والعلمانيين. ويقول فيها:
لقد سلم لنا الرسل الإنجيل الذي تسلموه من الرب يسوع المسيح، أن يسوع المسيح قد أُرسِل من قِبَل الله. ومن ثم فإن المسيح من الله والرسل من المسيح. ولذلك فإن كليهما أتى من قِبَل مشيئة الله في الموعد المحدد. ولما أخذوا وصية واستراحوا بقيامة الرب يسوع المسيح وتوطدوا في كلمة الله ببرهان الروح القدس، انطلقوا حاملين الأخبار السارة بقدوم ملكوت الله. ولما جالوا مبشرين في كل مكان، كانوا يعينون أوائل المؤمنين، بعد أن يختبروهم بالروح، أساقفة وشمامسة لخدمة العتيدين أن يؤمنوا. (Corinthians, 42).
ومن بين ما يؤكد عليه نصّ هذه الرسالة أن رسالة الإنجيل أتت من قبل يسوع التاريخي الذي أُرسل من قِبَل الله، وأن رسالته تبرهنت بقيامته الحقيقية من الأموات.
2(ج) أغناطيوس
وهو في طريقه إلى الاستشهاد في روما، كتب أغناطيوس، الذي كان أسقفاً لأنطاكية، سبعة رسائل- ستة منها إلى كنائس مختلفة وواحدة إلى صديقه بوليكاربوس. وتتصل ثلاثة من الإشارات التي يوردها لشخصية يسوع التاريخية على نحو خاص بكتاباته الأخرى:
يسوع المسيح الذي كان من نسل داود، الذي كان ابن مريم، الذي ولد حقاً وأكل وشرب، الذي قتل بالحقيقة على يد بيلاطس البنطي، الذي صُلب بالحقيقة ومات أمام جميع من في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، الذي قام أيضاً بالحقيقة من الأموات، إذ أقامه أباه، والذي على مثاله سوف يقيمنا نحن الذين نؤمن به أيضاً. (trallians, 9).
- إنه بالحقيقة من نسل داود حسب الجسد، ولكنه ابن الله بحسب مشيئة الله وقوته، وُلد بالحقيقة من عذراء وتعمَّد على يد يوحنا حتى يكمل به كل بر، وبالحقيقة سُمِّر على الصليب بالجسد من أجلنا في عهد بيلاطس البنطي وهيرودس رئيس الربع (ومن ثمار ذلك نحن- أي من آلامه المباركة)، حتى يضع بذلك علامة على مر العصور بقيامته (Smyrneans, 1).
- كن على يقين من الأمور المختصة بالميلاد والآلام والقيامة التي حدثت وقت حكم بيلاطس البنطي، لأن هذه الأمور تمّمها بالحقيقة. وبكل يقين يسوع المسيح هو رجاؤنا (Magnesians, 11)
يبدو أن أغناطيوس، الذي يقول التقليد المسيحي أنه كان تلميذاً لبطرس وبولس ويوحنا، كان مؤمناً بأن يسوع عاش حقاً، كما كان مؤمناً بكل ما قاله عنه الرسل. (McDowell/ Wilson, HWAU, 79)
3(ج) قوادراتوس
كان قوادراتوس تلميذاً للرسل وأسقفاً للكنيسة في أثينا، وهو من أقدم المدافعين عن الإيمان. ويسجل لنا المؤرخ الكنسي يوسابيوس سطوراً هي الوحيدة الباقية من دفاعه عن الإيمان الذي قدمه للامبراطور الروماني هادريان (حوالي 125م): لقد كانت أعمال مخلصنا أمامك دائماً، لأنها كانت معجزات حقيقية، فها هم الذين نالوا الشفاء، والذين أُقيموا من الموت، الذين رآهم الناس، ليس فقط عندما شُفوا أو أقيموا من الموت، ولكنهم ظلَّوا موجودين دائماً. لقد بقوا أحياء لفترة طويلة، ليس فقط أثناء فترة وجود ربنا على الأرض، ولكن أيضاً بعد أن ترك الأرض. وبعض منهم أيضاً ظلَّ حياً حتى زمننا (Eusebius, IV: III).
يشير هابرماس إلى تأكيد قوادراتوس على الوجود الفعلي ليسوع من خلال تاريخية معجزاته: (1) إن حقيقة معجزات يسوع يمكن تتبعها لأن يسوع صنعها علانية. وفيما يختص بأنواع هذه المعجزات (2) فقد شفى البعض (3) وأقيم البعض من الأموات (44) كان هناك شهود عيان على هذه المعجزات أثناء حدوثها (5) ظل الكثيرون ممن شفوا أو أقيموا من الأموات أحياء بعد أن ترك يسوع الأرض، وبعضهم بقى حياً إلى زمن قوادراتوس (Habermas, VHCELJ, 144).
4(ج) رسالة برنابا
كاتب هذه الرسالة غير معروف. واسم برنابا لا يرد في الرسالة، وينفي العلماء أن برنابا المذكور في العهد الجديد هو كاتب هذه الرسالة. ويقول هابرماس: اختلف العلماء في تحديد تاريخ كتابة هذه الرسالة، وهو يقع غالباً بين أواخر القرن الأول ومنتصف القرن الثاني الميلادي. والتاريخ الأكثر قبولاً بين عامي 130 - 138م (Habermas, VHCELJ, 145) وتؤيد هذه الرسالة الكثير من الأحداث التي وردت في المصادر سابقة الذكر. نقرأ في الجزء الخامس من الرسالة ما يلي:
وهو نفسه قد تحَّمل الآلام حتى الموت ليظهر قيامة الأموات، لأنه كان لابد أن يظهر في الجسد حتى يتمم الوعد للآباء ويعد لنفسه شعباً جديداً، فيرى وهو على الأرض، بالقيامة أنه مزمع أن يدين بنفسه. وهو أيضاً قد بشَّر إسرائيل معلماً إياه وصانعاً الكثير من العجائب والمعجزات، وأحبَّه (إسرائيل) كثيراً. وعندما اختار لنفسه رسلاً ليبشروا بإنجيله، وحتى يبين أنه لم يأت ليدعو الأبرار بل الخطاة، فقد كانوا خطاة فوق كل خطية، ثم أظهر أنه ابن الله (McDowell/ Wilson, HWAU, 82, 83).
5 (ج) أريستيدس
كان أريستيدس مدافعاً مسيحياً من القرن الثاني وفيلسوفاً أثينياً. ظلت أعماله مفقودة حتى أواخر القرن التاسع عشر عندما اكتُشفت ثلاثة نسخ منها باللغات الأرمينية والسريانية واليونانية. وقد دافع عن المسيحية مخاطباً الإمبراطور الروماني أنطونيوس بيوس الذي حكم بين عامي 138 و161م.
وفي معرض رسالته، يصف أريستيدس يسوع المسيح بالوصف التالي:
ابن الله العلي، أعلنه الروح القدس، نزل من السماء وُولد من عذراء عبرانية. أخذ جسده من العذراء وأعلن ذاته في الطبيعة البشرية كابن الله. وفي جوده الذي بشَّر بالأخبار السارة، ربح العالم كله ببشارته المحيية... اختار اثنى عشر رسولاً وعلَّم العالم كله بواسطة الشفاعة والحق المنير. وصُلب، إذ سمَّره اليهود، وقام من الأموات وصعد إلى السماء. أرسل الرسل إلى العالم كله، وعلَّم الجميع بالمعجزات الإلهية الممتلئة حكمة. فلا زالت بشارتهم تثمر حتى هذا اليوم، وتدعو العالم أجمع إلى النور. (Carey, زAristidesس, NIDCC, 68).
6(ج) چاستن مارتر
أجمع العلماء على أن چاستن مارتر هو أحد أعظم المدافعين الأوائل عن الإيمان المسيحي. (Bush, CRCA, 1).
وُلد حوالي عام 100م، وعوقب بالجلْد وقُطعت رأسه بسبب إيمانه حوالي عام 167. كان متعلماً وفقيهاً في فلسفات عصره ومنها الرواقية والأرسطوطاليسية والفيثاغورثية والأفلاطونية. (Carey, زJustin Martyr,س NIDCC, 558)
وبعد قبوله المسيح (حوالي 132م)، أصبح چاستن أستاذاً للفلسفة المسيحية في مدرسته الخاصة بروما. ولكونه رجلاً علمانياً، فربما كان يدير هذه المدرسة من بيته. كما يبدو أنه سافر كثيراً في أنحاء الإمبراطورية الرومانية وكان يقضي وقته في الخدمة والتعليم والتبشير. (Bush, CRCA, 3).
وفي كتاباته الكثيرة، يبني چاستن برهان الإيمان على أساس كتابات العهد الجديد وتحققه الشخصي المستقل من الكثير من الأحداث التي تسجلها. وهذه بعض مختارات من أعماله التي تناقش صحة الروايات عن يسوع المسيح:
- هناك قرية في أرض اليهود تبعد عن أورشليم مسافة خمس وثلاثين غلوة Stadia، وهناك وُلد يسوع المسيح، كما يمكنك التأكد أيضاً من سجلات الضرائب التي كانت في عهد كيرينيوس، حاكمك الأول في اليهودية. (First Apology, 34).
- لأنه في وقت ميلاده، أتى مجوس من العربية وسجدوا له، وكانوا قد أتوا أولاً إلى هيرودس، الذي كان والياً في أرضك. (Dialogue with Trypho, 77)
- لأنه لما صلبوه مسمِّرين إياه، ثقبوا يديه ورجليه. وهؤلاء الذين صلبوه اقتسموا ثيابه بينهم فاقترع كل واحد على ما اختاره، وهكذا احتكموا إلى القرعة فيما حصلوا عليه (Dialogue with Trypho, 97)
- وهكذا بعد أن صلبوه، تركه حتى كل أقربائه منكرين إياه، وبعد ذلك عندما قام من الأموات وظهر لهم وعلمهم أن يقرأوا النبوات التي سبقت وأخبرت بكل هذه الأمور، وعندما رأوه صاعداً إلى السماء وآمنوا وأخذوا قوة حلت عليهم من قبله، وذهبوا إلي كل جنس من البشر، وعلموا بهذه الأشياء ودعوا رسلاً (First Apology, 50)
- قال يسوع وهو بينكم (أي اليهود) إنه سيعطيكم آية يونان، وحضَّكم على التوبة من أفعالكم الشريرة ولو بعد قيامته من الأموات... ولكنكم لم تتوبوا بعد أن علمتم أنه قام من الأموات، وليس ذلك فقط، بل أنكم، كما قلت قبلاً، أرسلتم رجالاً مختارين ومعينين إلى العالم كله لتعلنوا أن هرطقة شريرة وغير شرعية قامت على يد واحد هو يسوع، جليلي مضلّ، الذي صلبناه ولكن تلاميذه سرقوه ليلاً من القبر حيث وُضع بعد أن أُنزل عن الصليب. وهم يضلون الناس الآن بالتأكيد على أنه قام من الأموات وصعد إلى السماء (Dialogue with Trypho, 108)
7(ج) هيجيسيبوس
يقول چيروم إن هيجيسيبوس عاش في زمن مقارب لزمن الرسل. ويستنتج يوسابيوس أن هيجيسيبوس كان يهودياً ويقول إن أعماله اشتملت على خمسة كتب من المذكرات. (Williams, NIDCC, 457) وبعض أجزاء هذه المذكرات فقط بقيت في كتابات يوسابيوس. وهي تبين أن هيجيسيبوس كان كثير الترحال وأنه كان حريصاً على معرفة ما إذا كانت القصة الحقيقية (ليسوع) قد انتقلت من الرسل إلى خلفائهم، وقد اكتشف أنها انتقلت بالفعل حتى في وقت اضطرابات الكنيسة في كورنثوس. ويورد يوسابيوس قوله: «ظلت كنيسة كورنثوس على العقيدة الصحيحة حتى أصبح بريموس أسقفاً، فاختلطت بهم في رحلتي إلى روما وقضيت أياماً مع الكورنثيين، وأثناء ذلك أنعشتنا أحاديث العقيدة الصحيحة. وعندما وصلت إلى روما، تتبعت التسلسل الذي جمعته حتى أنيسيتوس الذي كان إلوثيروس شمَّاسه، وخلف أنيسيتوس سوتر ثم إلوثيروس. في كل تسلسل للأساقفة وفي كل مدينة تتفق الأمور مع تعاليم الناموس والأنبياء والرب». (Eusebius, The History of the Church, 9.22.2)
إن الحقائق الأساسية عن يسوع وتعاليمه قد حفظها الرسل بعناية وانتقلت منهم بأمانة إلى الكنائس جيلاً بعد جيل ومن مكان إلى آخر. فالحكم إذاً هو: إن كُتَّآب الكنيسة الأولى قد شهدوا، بحياتهم وكلماتهم، أن الأحداث التاريخية لحياة يسوع، كما ترويها الأناجيل، صحيحة ويمكن الوثوق بها (McDowell/ Wilson, HWAU, 87)
4(أ) مصادر تاريخية إضافية للمسيحية
هناك مصادر أخرى إضافية تشير إلى المسيح والمسيحية. وفيما يلي بعض المصادر العلمانية الإضافية التي تتطلب المزيد من الدراسة:
1(ب) تراجان
الامبراطور الروماني (Pliny the Younger, Epistles 10: 97) وهذه رسالة من الامبراطور إلى بلّيني، يخبره بعدم معاقبة المسيحيين الذين يضطرهم الرومان إلى الارتداد عن عقيدتهم. ويخبر بلّيني ألاّ يقبل الحكام الرومانيون معلومات مجهولة المصدر عن المسيحيين.
2(ب) ماكروبيوس
Macrobius, Saturnalia, lib. 2, ch4. يذكر باسكال في كتابه «الرسائل الريفية» هذا القول لأوغسطس قيصر كدليل على مذبحة أطفال بيت لحم.
3(ب) هادريان
الإمبراطور الروماني (Justin Martyr, The First Apology, Chs. 68, 69)
يورد يوستينوس رسالة هادريان إلى مينوسيوس فوندانوس، والي آسيا الصغرى. وتتحدث الرسالة عن اتهامات الوثنيين ضدالمسيحيين.
4(ب) أنطونيوس بيرس
الإمبراطور الروماني (Justin Martyr, The First Apology, ch. 70)
يورد چاستن (أو أحد تلاميذه) رسالة أنطونيوس إلى المجلس العام في آسيا الصغرى. وتتحدث الرسالة بشكل أساسي عن استياء الحكام في أسيا الصغرى من المسيحيين في مقاطعتهم، وعن أنه لن تجرى أية تغييرات في أسلوب معاملة أنطونيوس للمسيحيين هناك.
5(ب) مرقس أوريليوس
الامبراطور الروماني (Justin Martyr, The First Apology, ch. 71)
وهذه الرسالة من الإمبراطور إلى المجلس الروماني. وقد أضافها إلى المخطوطة أحد تلاميذ چاستن. وفيها يصف الامبراطور المسيحيين في نضالهم بالجيش الروماني.
6(ب) چوفينال
(Juvenal, Satires, 1, lines 147- 157) يذكر چوفينال بشكل غير مباشر عذابات المسيحيين على يد نيرون في روما.
7(ب) سينكا
(Senca, Epistulae Morales, Epistle 14, زOn the Reasons for Withdrawing from the world, par. 2)
ومثل چوفينال، يصف سينكا فظائع نيرون في معاملته مع المسيحيين.
8(ب) هيروكليس
(Eusebius, The Treatise of Eusebius, ch. 2). ويحتفظ يوسابيوس في اقتباسه هنا ببعض نصوص كتاب هيروكليس المفقود Philalethes أو محب الحق. وهيروكليس يدين هنا بطرس وبولس كسحرة.
9 (ب) أحد أهم المؤلفات التي تناقش شخص المسيح كشخصية تاريخية مجلد نشرته جامعة كمبريدچ عام 1923، ألَّفه س. ر. هاينز، وعنوانه «الصلات الوثنية المسيحية على مدى المائة والخمسين عاماً الأولى لها: المصادر المسيحية في الكتابات الوثنية أثناء ذلك العصر».
خاتمة
ينتهي هوارد كلارك كي، الأستاذ المتقاعد في جامعة بوسطن، إلى النتائج التالية من دراسته للمصادر الأخرى غير العهد الجديد: إن نتيجة فحص المصادر الأخرى غير العهد الجديد التي تؤيد بشكل مباشر أوغير مباشر ما نعرفه عن يسوع هي تأكيد وجوده التاريخي، وقوته الفائقة وإخلاص أتباعه، واستمرار الحركة المسيحية بعد موته على يد الحاكم الروماني في أورشليم، وتغلغل المسيحية في طبقات المجتمع العليا في روما نفسها بنهاية القرن الأول (Kee, WCKAJ, 19)
ويضيف كي : رغم تعدد الوسائل التي انتقل بها التقليد الذي يخبرنا عن يسوع، فلدينا سلسلة واضحة ومتسقة للشواهد عن هذا الشخص الذي ظلت حياته وتعاليمه وموته لها تأثير عميق على تاريخ الجنس البشري في الفترات التي جاءت بعده (Kee, WCKAJ, 114).
في طبعة عام 1974 لدائرة المعارف البريطانية، استخدم الكاتب حوالي عشرين ألف كلمة ليصف يسوع المسيح وهي مساحة أكبر من أي مساحة أخرى خصصت لأرسطو أو شيشرون أو الإسكندر أو يوليوس قيصر أو بوذا أو كونفوشيوس أو نابليون بونابرت. وفيما يختص بشهادة المصادر العلمانية المستقلة الكثيرة عن يسوع الناصري، ينتهي الكاتب إلى ما يلي:
تؤيد هذه المصادر المستقلة أنه في العصور القديمة لم يتشكك حتى خصوم المسيحية في حقيقة يسوع التاريخية، التي شكك فيها لأول مرة وعلى أسس غير صحيحة عدد من الكتاب في نهاية القرن الثامن عشر وأثناء القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. (EB, 145).
ولهؤلاء الذين ينكرون وجود يسوع التاريخي، يقول إ. هـ مارشال العالم البريطاني الشهير للعهد الجديد: لا يمكن تفسير ظهور الكنيسة المسيحية أو كتابات الأناجيل وفيض كتابات التقليد الأخرى من بعدها دون قبول حقيقة أن مؤسس المسيحية كان له وجود فعلي (Marshall, IBAJ, 24).
رغم أن المصادر غير المسيحية لا تقدم مثل ما يقدمه العهد الجديد من تفاصيل عن يسوع، إلا أنها تقدم الدليل على بعض الحقائق الأساسية للصورة الكتابية ليسوع. ويقول روبرت شتاين أستاذ العهد الجديد: تؤيد المصادر غير المسيحية بما لا يدع مجالاً للشك الأمور التالية على الأقل:
(1) أن يسوع كان شخصية تاريخية حقيقية.
(2) أن يسوع عاش في فلسطين في القرن الأول.
(3) أن قادة اليهود تورطوا في قتل يسوع.
(4) أن يسوع صُلب على أيدي الرمان أثناء حكم بيلاطس.
(5) أن خدمة يسوع ارتبطت بالعجائب أو السحر (Stein, JM, 49).
كتب ر. ت. فرانس يقول: لذلك فإن القرائن غير المسيحية تبرهن على حقيقة وجود يسوع، وعلى اتباع الكثيرين له، وعلى إعدامه والتاريخ التقريبي لذلك. (France, NBD, 564)
يؤكد إدوين ياموتشي أستاذ التاريخ بجامعة ميامي أن لدينا من الوثائق التاريخية ليسوع ما يفوق الوثائق التي تشير إلى أي مؤسس ديني آخر (مثل زرادشت أو بوذا). وعن المصادر غير الكتابية التي تشهد للمسيح ينتهي ياموتشي إلى ما يلي:
ولو لم يكن لدينا كتابات العهد الجديد المسيحية، لاستطعنا أن نستنبط الحقائق التالية من الكتابات غير المسيحية مثل كتابات يوسيفوس والتلمود وتاسيتوس وبلِّيني الصغير: (1) أن يسوع كان معلماً يهودياً.
(2) أمن الكثيرن من الناس أنه قام بأعمال الشفاء والسحر.
(3) أن رؤساء اليهود قد رفضوه.
(4) أنه صلب في ظل ولاية بيلاطس البنطي وحكم طيباريوس.
(5) رغم موت العار الذي اجتازه، إلا أن أتباعه الذين كانوا يؤمنون أنه لا يزال حياً، انتشروا إلى ما وراء فلسطين حتى أصبح هناك الكثير منهم في روما بحلول عام 64م.
(6) أن مختلف ألوان البشر من المدن والقرى - رجالاً ونساءً، عبيداً وأحراراً- قد عبدوه كإله بحلول القرن الثاني الميلادي. (Yamauchi, JUF, 221, 222)
إن قوة وعمق حياة يسوع كشخصية تاريخية كان لها تأثير كبير على التاريخ. كتب المؤرخ المعروف چاروسلاف بليكان يقول: بغضّ النظر عن العقيدة الشخصية لأي شخص في يسوع الناصري، فإنه الشخصية التي لها الحضور الأقوى في تاريخ الثقافة الغربية على مدى ما يقرب من عشرين قرناً. لو كان ممكناً باستخدام نوع ما من المغناطيسيات الفائقة أن تنتزع من ذلك التاريخ كل أثر لاسمه فقط، فماذا كان سيتبقى؟ (Pelikan, JTC, 1)
إن أثر المسيح على حركة التاريخ ليس له نظير. كتب أحدهم في مجلة نيوزويك: قياساً على أي معيار علماني، يعد يسوع أيضاً هو الشخصية الأكثر سيادة في الثقافة الغربية. ومثل الألفية ذاتها، فإن الكثير مما نعتقد الآن أنه من نتاج الأفكار والابتكارات والقيّم الغربية منبثق عن أو مستوحىً من الديانة التي تعبد الله باسمه. فالفن والعلم، الفرد والمجتمع، السياسة والاقتصاد، الزواج والأسرة، الصواب والخطأ، الجسد والروح- كلها تأثرت بل وشهدت تحولاً جذرياً في الكثير من الأحوال بتأثير الثقافة المسيحية. (Woodward, N, 54)
ويشير جاري هابرماس بعد دراسته للبراهين التاريخية على وجود المسيح إلى أنه «من المثير للدهشة أن بعض العلماء قد أكدوا أن يسوع لم يكن له وجود أبداً، أو حاولوا التشكيك كلية في حياته وخدمته. وعندما تكون هناك محاولات كهذه، تتعالى أصوات قليلة بالاحتجاج في مجتمع العلماء. لقد رأينا أن هذه المحاولات تفنَّدها من كل وجه شهادة العيان المبكرة لبولس وغيره إضافة إلى التاريخ المبكر لكتابة الإنجيل. (Habermas, HJ, 46).
تقطع البراهين بأن يسوع قد عاش حقاً بيننا وصنع أعمالاً عظيمة حتى أن المصادر غير المسيحية والمعادية لا تقصر عن إثبات ذلك. وقد ضلَّ السبيل المتشككون في حقيقة يسوع التاريخية.
|