1(أ) أهمية الفرضية الوثائقية في النقد العالي
لقد أشرنا من قبل إلى الدور الهام الذي لعبته الفرضية الوثائقية في تأسيس مدرسة النقد العالي التي بدون شك أضعفت من المصداقية التاريخية والأدبية للعهد القديم. لهذا السبب فإن الاستنتاجات الراديكالية التي وصلت إليها هذه المدرسة تتطلب البحث الدقيق لوضع هذه المدرسة في موضعها الصحيح بواسطة كل الباحثين الجادين الذين يدرسون العهد القديم. إن أي بحث مثل هذا يجب أن يبدأ بتحليل أسفار التوراة الخمسة ونشر نظرية الفرضية الوثائقية وسواء كانت نظرية النقد العالي الراديكالي هي في الحقيقة نظرية صحيحة وقانونية أو أنها يجب أن تُنبذ لمصلحة نظرية أخرى تكون ملائمة بطريقة أفضل للحقائق الموجودة في الفرضية الوثائقية.
2(أ) تاريخ تطورها
1(ب) النظرية الوثائقية الأولى
بقدر ما هو معروف فإن قساً بروتستانتياً يدعى ويتر في النصف الأول من القرن الثامن عشر، كان أول من أكد أن هناك قصتين متماثلتين للخلْق وأنهما يمكن تمييزها بواسطة استخدام الأسماء الإلهية المختلفة. أيضاً فإنه كان أول من اقترح أن الأسماء الإلهية هي المعيار الذي يمكن بواسطته التمييز بين الوثائق المختلفة. (Cassuto, DH,9; Young, IOT,118)
وكان أول تعامل بارز مع النظرية الوثائقية عام 1753 بواسطة الطبيب الفرنسي چان استرك والذي أكد أن موسى هو كاتب سفر التكوين.
يعتقد استرك أنه كانت هناك وثائق في سفر التكوين غير مشكوك فيها، يمكن أن تُميَّز بواسطة الاستخدام الفريد للأسماء الإلهية إلوهيم ويهوه في الأصحاحات الأولى. ولكن سرعان ما أدرك استرك أن ظاهرة الاسم الإلهي لا يمكن أن تُستخدم كمعيار لاختبار أي أجزاء من أسفار موسى الخمسة بخلاف التكوين. إن تكرار الأحداث التي يتذرعون بها (مثلاً قصة الخلْق وقصة الطوفان) وعدم الدقة في الترتيب الزمني التي استشهد بها استرك أيضاً كدليل للمصادر الأساسية. ومع أنه طوَّر نظرية كتابية، فإن استرك دافع عن موسى كمؤلف لهذه القصص الكتابية. (Young, IOT,118-21)
إن أول من استخدم نظرية استرك في ألمانيا هو ايكهورن في مقدمته للعهد القديم، Einleitung in das Alte Testament 1780-1783. اقترح ايكهورن أن معيار تحليل المصادر في أسفار موسى الخمسة يجب أن تتضمن اعتبارات أدبية (مثل اختلاف الأسلوب، وكلمات خاصة بالوثائق السابقة، وهكذا) بالإضافة إلى معيار اسم الله عند استرك. (Harrison IOT,14)
2(ب) فرضية الأجزاء الصغيرة
1(جـ) النظرية
في عام 1800 قال كاهن كاثوليكي اسكتلندي يُدعَى جيديث إن النظرية الوثائقية لاسترك ليست سوى عمل من مبتكرات الخيال. حيث اعتقد جيديث أن هناك كثيراً من الأجزاء أو الشظايا الكبيرة والصغيرة (ليست وثائق حقيقية) قد ضُمَّت معاً بواسطة شخص كان يُنِّقحها بعد موت موسى بحوالي 500 سنة. ومن 1802 حتى 1805 طوَّر الألماني يوهان فاتر نظرية جيديث وحاول أن يبين التطور التدريجي لأسفار التوراة الخمسة من أجزاء قائمة بذاتها. كان يعتقد أنه هناك على الأقل 38 مصدراً للأجزاء المختلفة. ومع بعض الأجزاء المعينة التي كانت من عصر موسى، فإن الأسفار الخمسة كما هي عندنا الآن قد جُمعت في حوالي وقت السبي اليهودي (586 ق.م) وتطورت هذه النظرية أكثر في عام 1831 بواسطة الباحث الألماني هارتمان. (Young, IOT,123-27)
2(ج) اختلاف جوهري عن النظرية الوثائقية لاسترك
يرى الذين يعتقدون بهذه النظرية أنه لا توجد وثائق متصلة، ولكن هناك الكثير من الأجزاء أو الشظايا من هذه الوثائق التي لا يمكننا أن نعزلها عن الوثائق الأخرى.
3(ب) نظرية الاستكمال
1(ج) النظرية
في عام 1823 سدد هينريك إوالد الضربة القاضية لفرضية الأجزاء الصغيرة في كتابه Die Komposition der Genesis Kritisch Unter sucht، الذي فيه دافع عن وحدة سفر التكوين. وفي عام 1830 بدأ يطور نظرية جديدة ترى أن أساس الأسفار الستة الأولى من الكتاب المقدس تكمن في الوثيقة الإلوهيمية (E)، ولكن فيما بعد ظهرت وثيقة موازية لها استخدمت الاسم الإلهي «يهوه Jehovah»، وفيما بعد أخذ محرر بعض المقتطفات من الوثيقة J، وأدخلها في مقدمة الوثيقة E. ولقد ظهرت تعديلات عـديـدة لهـذه الفـرضيـة الأساسية فيما بعد، بواسطة كُتِّاب مــثل دي ويت ولنجـرك (1844)، اللـذان كانا يعتقدان بأن الذي أضيف ليس إضافة واحدة بل ثـلاث إضـافات. (Young, IOT, 127-29)
2(جـ) إختلاف جوهري عن فرضية الأجزاء الصغيرة
طبقاً لهذه النظرية، ليس هناك خلط أو مزج للمصادر، على الأصح هناك وثيقة أساسية واحدة E في كل سفر التكوين، بينما المصدر أو الوثيقة Jهي تكملة أضيفت فيما بعد.
4(ب) نظرية التبلور
(جـ) النظرية
بحلول عام 1845 رفضت إوالد نظريته التي تقول بالإضافات. واقترَّح أنه بدلاً من وجود شخص واحد أضاف بعض الإضافات، فإن هناك خمس رواة (أشخاص يروون القصة) كتبوا أجزاء مختلفة من أسفار التوراة الخمسة في أوقات مختلفة في فترة مداها سبعمائة عام. ومن المفترض أن الراوي الخامس كان يهودياً من زمن عُزيا الملك، الذي كان يستخدم باستمرار اسم يهوه، وأنه كان الكاتب الأخير. لقد أكتملت أسفار موسى الخمسة ما بين 790-740 ق.م ويعتـقـد إوالــد أيضـاً أن سفر التثنية كان عملاً مستقلاً أضيف حوالي عــام 500 ق.م. أخـرون يعتقدـون بصيغة أبسـط لهذه النظـرية ـ أمثــال أوجسـت كنوبل (1861) وشريدر (1869). (Young IOT,129-30)
2(جـ) إختلاف جوهري عن نظرية الاستكمال
تؤمن هذه النظرية أنه لا يوجد شخص واحـد أضـاف بعض الإضافـات ولكـن هـنـاك خمـس رواة مختلفـين كتبوا أجزاء مختلفـة من أسفار التوراة الخمسة في أوقات مختلفـة.
5(ب) النظرية الوثائقية المعدلة
1(جـ) النظرية
في عام 1853 حاول هيرمان هبفلد أن يُبيِّن:
(أ) أن أجزاء الوثيقة J في سفر التكوين لم تكن مجرد إضافات للسفر ولكنها كوَّنت وثيقة مستمرة.
(ب) أن الوثيقة E الأساسية (نظرية الاستكمال) لم تكن وثيقة واحدة متواصلة ولكنها بالحري كانت مؤلفة من وثيقتين منفصلتين التي سماها P,E . أي الوثيقة الإلوهيمية والوثيقة الكهنوتية.
(جـ) أن هذه الثلاث وثائق وضِعت في شكلها الحالي بواسطة منقح أعاد صياغتها.
(د) أن سفر التثنية كان وثيقة منفصلة، أضيفت أخيراً (سُميت D).
هكذا فإن هيفلد اعتقد أنه كان هناك فعلاً أربع وثائق واضحة المعالم محبوكة هي بنية قصص أسفار موسى الخمسة: وهي P (يمثل الوثيقة الإلوهيمية المبكرة) ثم E وJ وأخيراً D. (Oung, IOT,130-31)
2(جـ) إختلاف جوهري عن نظرية التبلور
ليس خمسة رُواة ولكن شخصاً واحداً هو الذي صاغ وجمع الثلاث وثائق: الوثيقة J المتأخرة، الوثيقة E المبكرة، والوثيقة Eالمتأخرة.
6(ب) تطوير الفرضية (النظرية الوثائقية المنقحة)
1(جـ) النظرية (عادة ما تُسمى اليوم) الفرضية الوثائقية
في 1860 وضع هيفلد نظاماً خاصاً لترتيب الوثائق زمنياً من الأقدم وحتى الأحدث فجاءت بحسب الترتيب التالي: P ثم E ثم J وأخيراً D. ولكن كارل جراف قام بتعديل هذا النظام إلى J ثم E ثم D وأخيراً P، حيث أكد أن الوثيقة الأساسية (الكاتب الإلوهيمي الأول أو P) لم تكن هي أقدم أجزاء أسفار التوراة الخمسة وإنما أخرهم. كما نالت نظرية جراف الدعم من
إبراهام كونين.
ولقد استطاع يوليوس فلهوزن (في كتاب Die Komposition des Hexateuchs) عام 1876 وكتاب (Prolegamena Zur Geschichte Israels) عام 1878، أن يصوغ بمهارة وفصاحة نظرية كونين وجراف الوثائقية واعطاها الأسلوب الكلاسيكي مما منحها الشهرة في معظم دوائر البحث الأوروبية. ولقد أعاد فلهوزن صياغة الفرضية الوثائقية (التي أصبحت فيما بعد تسمى فرضية فلهوزن - جراف) على ضوء النظرة التطورية للتاريخ التي سادت في الدوائر الفلسفية في ذلك الوقت.
كان فلهوزن يعتقد أن:
1- الجزء الأول من أسفار موسى الخمسة جاء من وثيقتين مستقلتين، اليهوية (850 ق.م) والإلوهيمية (750 ق.م)
2- من هاتين الوثيقتين كوّن الكاتب اليهوي عمل روائي مشترك (650 ق.م).
3- كُتب سفر التثنية في زمن يوشيا الملك ودمجها كاتبها في التقليد اليهوي.
4- إن شريعة الكهنوت في التقليد الإلوهيمي هي معظمها من عمــل عزرا الكاهن، ويشـار إليها علـى أنهـا الوثيقة الكهنوتية، ولقد راجع محرر أو مجموعة محررين هذه الوثائق حوالي 200 ق.م. لكي يُشكل أسفار التوراة الخمسة التي معنا اليوم.
في إنجلترا فسَّر روبرت سميث كتابات فلهوزن.
ولكن صامويل دريفر هو الذي قدَّم كتابات فلهوزن للعالم الناطق بالإنجليزية.
2(جـ) إختلاف جوهري عن نظرية النظرية الوثائقية المعدلة
إن الوثيقة P ليست أول وثيقة ولكنها تشكل نهاية سلسلة متعاقبة من JEDP استَّنبطت بحسب نموذج منظَّم متطور.
7(ب) التعديلات المطورة والحديثة للفرضية الوثائقية منذ فلهوزن
1(جـ) رودلف سميند: ليست J وثيقة واحدة، ولكنها اثنتان J2وJ1 (Archer, SOTI,91).
2(جـ) اوتو ايزفلدت: وثيقة L ضمن نطاق وثيقة J، كتبت عام 860 ق.م (Archer, SOTI,91).
3(جـ) كينيث: تعتقد أن سفر التثنية جاء بعد عهد يوشيا. وهكذا فإن «سفر الشريعة» الذي وُجد في الهيكل عام 621 ق.م لم يكن هو سفر التثنية. (Archer, SOTI,100-1)
4(جـ) مارتن كجيل وادم ولش: يستنتجان أن سفر التثنية كتب قبل يوشيا بوقت طويل (621ق.م.) (Archer, SOTI, 101-2).
5(جـ) ماكس لوهر: يؤكد أنه.
1- لم يوجد مطلقاً مصدر P مستقل.
2- أسفار التوراة الخمسة جمعها عزرا الذي صاغ المواد المكتوبة قبل السبي.
3- هذه المواد المكتوبة لا يمكن أن تتماثل مع أي وثائق معينة (مثل J,E وهكذا). (Archer, SOTI, 97)
6(جـ) يوليوس مورجنشترن: استنتج أن الوثيقة K وهي تشبه إلى حد ما الوثيقة L عند ايزفلدت في داخل الوثيقة J (Archer, SOTI,91).
7(جـ) بول فولز وفيلهلهم رودلف: استنتجا أن:
1- لا يوجد أساس لوجود وثيقة E منفصلة.
2- شخص واحد فقط هو الذي كتب كل سفر التكوين مع إضافات قليلة أضافها كاتب في وقت متأخر (Archer, SOTI,100).
8(جـ) روبرت فايفر: يدِّعي أن الوثيقة S توجد في أجزاء من التقليدينE وJ من سفر التكوين 1-11 و14- 18، تاريخها يرجع إلى 950 ق.م. (Archer, SOTI,91)
|