1(أ) القوة المزعومة
1(ب) القوة المتجمعة للفرضية
لقد اعترف النقَّاد أن كل مقياس تمَّ به تقسيم أسفار التوراة إلى مصادر متنوعة ليس حجة مقنعة في حد ذاته. بينما عندما يتمّ تجميع هذه الحجج معاً، تقدم هذه المقاييس بالفعل سنداً قوىاً للغاية على نظرية تعددية المصادر.
ويكتب في هذا الخط الناقد الوثائقي البريطاني أ.ث. ثابمان: «إن قوة الموقف النقدي يرجع أساساً إلى حقيقة أن نفس النتائج يتم التوصل إليها من خلال مسارات مستقلة من البراهين». ومن ثم فهم يستندون إلى التأثير التراكمي لمسارات البرهنة المستقلة.
ولكن كما يشير كيتشن «إنه لمضيعة للوقت أن نتكلم عن «القوة المتجمعة» للبراهين التي كل منها باطلة غير ذات قيمة. حيث أن حاصل جمع صفر + صفر + صفر + صفر = صفر بأي طريقة حساب. إن الاتفاق المزعوم للمقاييس المتنوعة التي يعد استقلالها عن بعضها ظاهرياً أكثر من كونه حقيقياً، يجب أن يتم رفضه... والأسانيد وراء ذلك ضخمة جداً عن أن يتضمنها هذا الكتاب. (Kitchen, AOOT,125)
2(ب) أسباب القبول الواسع لهذه النظرية
ربما يجول بأذهننا سؤال، لماذا إذن طالما أن هذه الفرضية الوثائقية غير سليمة - كما حاولت هذه الفصول أن تظهرها لنا - فلماذا تمسّكت بها ودافعت عنها معظم دوائر علماء الكتاب المقدس بهذا الحماس في جميع أنحاء قارة أوروبا، وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة؟ ويجيب على هذا السؤال
و.هـ .جرين:
لقد قبل عدد ضخم من علماء الكتاب المقدس البارزين الانقسامات النقدية للتوراة بشكل عام حتى إذا لم يتم قبولها في جميع تفاصيلها. لقد كان لها جاذبيتها الخاصة، والتي عملت بشكل كبير على زيادة شعبيتها. إن التعليم والكفاءة والاجتهاد بصبر التي تم بذلها لكي تخرج متفقة، كما أن براهينها البراقة جاءت في صالحها، والمهارة التي تمَّ توجيهها لدراسة ظاهرة التوراة والعهد القديم بوجه عام، كل هذه العوامل منحتها مظهراً يحمل تقديراً عظيماً. وكذلك فإن خطوط البحث التي اتخذتها جذابة جداً لذوي الاتجاه النقدي في التفكير، الذين يرون فيه فرصة لبحث أصلي ومثمر في إعادة توثيق الكتابات القديمة، التي ظلَّت لفترة طويلة مدفونة ولم تكن في الحسبان في النصّ الموجود حالياً، والتي سبقتها لقرون. إن الإقدام والنجاح الظاهري الذي تَّولد عنه الثورة على الرأى التقليدي ومنحت احتراماً جديداً لأمل وتاريخ ديانة العهد القديم، وتحالفها مع نظرية التطور التي وجدت تطبيقها واسعاً في مجالات أخرى من البحث أسهم اسهاماً كبيراً في شعبيتها. (Green, HCP.131-32)
ويضيف جرين: «ويكمن فشلها ليس في نقص البراعة الذهنية أو العلم، أو الجهد المثابر من جانب دعاتها، وليس من الرغبة في استخدام قدر أكبر من الحدس، ولكن ببساطة جاء الفشل من استحالة الوصول إلى الهدف النهائي. (Green, HCP,132)
2(أ) نقاط ضعف منهجية خطيرة
يستجمع آرشر الأخطاء المنهجية بهذه الطريقة:
من المشكوك فيه إذا ما كانت فرضية فلهوزن يمكن اعتبارها ذات ثقل علمي. فثمة الكثير من الدفاعات الخاصة، والمنطق الدائري، والاقتطاعات المثيرة للجدل من المقدمات المنطقية المسَلّم بها والتي لن تثبت منهجياً أبداً في محكمة القانون. ومن النادر أن نجد من الدلائل الشرعية ما يظهر أنها قد لاقت احتراماً في الإجراءات القانونية من قِبَل مهندسي هذه النظرية الوثائقية. وأي محامي يحاول أن يفسر وصية أو تشريعاً أو وثيقة بواسطة هذا الأسلوب الغريب وغير المسئول لنقد مصادر التوراة سوف يجد قضيته تلْقَى خارجاً من القضاء بدون تأخير. (Archer, SOTI, 99)
وسوف يتمّ تقديم موجز لبعض الأمثلة المحددة لهذا الضعف فيما يلي:
أ(ب) فرض رؤية معاصرة وغربية على الكتابة الشرقية القديمة
إن المدخل النقدي الراديكالي يصبح محل جدال شديد حينما يفترض أن: (1) تاريخ كتابة كل وثيقة يمكن تحديده بدقة ويقين، حتى مع عدم وجود كتابات عبرية معاصرة أخرى متاحة للمقارنة والقياس.
(2) الكلمات غير المتوقعة أو النادرة في النصّ الموسوي يمكن استبدالها في الحال بكلمات مناسبة أكثر.
هذه الممارسات يثور حولها الجدل خاصة في ضوء ملاحظات آرشر.
إنهم كغرباء يعيشون في عصر وثقافة مختلفة تماماً، شعروا في أنفسهم القدرة على تعديل أو حذف عبارات أو حتى جمل بأكملها عندما تهاجم مفاهيمهم أو أساليبهم الغربية الحديثة الخاصة بالاتساق.
كما أنهم زعموا أن علماء الكتاب المقدس الذين جاءوا للحياة بعد أكثر من 3400 سنة من الأحداث الكتابية يمكن لهم على أساس النظريات الفلسفية بثقة أكبر إعادة بناء الأسلوب الذي حدثت به الأحداث، بطريقة أفضل من ما قام به القدماء أنفسهم. (الذين تمَّ عزلهم عن الأحداث في مسألة لا تتجاوز 600 أو ألف سنة حتى مع تواريخ النقَّاد أنفسهم). (Archer, SOTI,99)
2(ب) الافتقار إلى دليل موضوعي
حتى أكثر النقَّاد ثقة بنظريتهم يجب أن يعترفوا بعدم وجود دليل موضوعي على وجود أو تاريخية المصدر اليهوي أو الكهنوتي أو أي مصدر أو وثيقة مزعومة بأنها من مكوِّنات التوراة. ولا توجد أية مخطوطة لأي قسم من العهد القديم تؤرخ بتاريخ مبكر عن القرن الثالث قبل الميلاد. (Kitchen, AOTT,2)
ومن المستحسن أن نذكر تعليق جرين على هذه النقطة الذي استشهد به توردي: «كل التقليد وكل الشهادة التاريخية الخاصة بأصل التوراة تعارض هذه النظريات النقدية. إن عبء الإثبات يقع بالكامل على عاتق النقَّاد. وهذا البرهان يجب أن يكون واضحاً ومقنعاً بالنسبة إلى الطبيعة الجذابة والثورية للنتائج التي من المفترض أنها تستند عليها. (Torrey,HCNT,74)
يعلق د. بروس ك. والتك بوضوح وثبات: «على الرغم أن من قرأ فقط الأدبيات الشائعة التي تتحيز للنتائج التي توصَّل إليها المدخل التحليلي الأدبي ربما لا يدرك ذلك. وحتى أكثر الدفاعات الغيورة لهذه النظرية يجب أن يعترف بأنه ليس لدينا ولا حتى جزءاً صغيراً من الدليل المادي يثبت وجود أو تاريخية المصادر اليهوية والتثنوية والكهنوتية وغيرها». (Albright, AP,2)
3(ب) اتباع المدخل الانحلالي بديلاً عن المدخل التوافقي
إن المدخل التوافقي هو المنهجية القياسية في بحوث الأدبيات والوثائق القديمة، وأي لحظة يتمّ فيها التخلي عن هذا المدخل في محاولة لإيجاد تناقضات، سوف تظهر التناقضات في الكتابة، بواسطة تنوعها الطبيعي. ونفس الأمر ينطبق على دراسات الكتاب المقدس.
وقد لاحظ أليس بذكاء شديد: «يجب أن يظهر الانحلال حتماً من خلال تطبيق المنهج الإنحلالي للتفسير، سواء كانت الاختلافات والتنوعات التي يطبق عليها موجودة في الشكل أو في مضمون الوثيقة التي يتم التطبيق عليها. (Allis, FDM, 126)
يصل كيلي إلى استنتاج مشابه: «النقد ليس هو حب الانتقاد والاعتراض، ولكن ما أسهل أن يصير هكذا، عندما يعلن النقد عن مجموعة من اتجاهات لتفحص سلامة ومصداقية الوثائق التي يطبق عليها. هنا يصبح الميل إلى إيجاد خطأ، والبحث عن تعارض هو أمر لا يقاوم. وفي الواقع هو ضروري لهذه العملية، ولكنه منهج مضلل شديد العرضة لعمليات باطلة من التفكير. (Kyle,DVMBC,178)
ونأتي إلى أحد أكثر المظاهر المؤلمة لهذا المنهج الضعيف هو ميله لاختلاق مشكلات هي في العادة غير موجودة. ويؤكد كيتشن «إن بعضاً من الصعوبات المزعومة ليست سوى ابن غير شرعي للنظرية الأدبية نفسها».
النظريات التي تحاول على نحو متكلِّف أن تختلق صعوبات لم يكن لها وجود من قبل. هذه النظريات خاطئة تماماً، ومن هنـا ينبـغي أن نطرحهـا جانـباً. (Kichen, AOOT,114)
ويلخص أليس مغالطة هذا المدخل فيما يلي:
ومن ثم، يجب ملاحظة أن البحث عن مثل هذه الصعوبات هو أمر بسيط وسهل نسبياً - فسيكون من السهل أن نكسر كرة كريستال إلى عدد من الأجزاء وبعدها نكتب مجلداً يفيض بالمناقشات والبيانات المتقنة عن الاختلافات المسجلة بين الأجزاء التي حصلنا عليها. وأن نبرهن على أن هذا الأجزاء يجب أن تكون قد أتت من كرات مختلفة. والنقض الوحيد النهائي سيكون إثبات أنه عندما تجتمع معاً فإن هذه الأجزاء تشكل مرة ثانية كرة واحدة. ولكن بعد كل ما يقال فإن وحدة وانسجام الروايات الكتابية كما تظهر في الكتاب المقدس هي أفضل نقض ودحض لهذه النظرية التي تقول إن هذه الروايات ذات التماسك الذاتي نتجت عن جمع العديد من المصادر ذات التنوع والتعارض الكثير أو القليل. (Allis, FBM,121)
4(ب) عدد الوثائق الأصلية غير محدود
تبعاً للطبيعة الانقسامية لهذه المنهجية ولعدم وجود أي محددات موضوعية، فإن أي تحليل متماسك ومتين للنصّ يصبح أمراً لا يمكن الحصول عليه.
وقد وصف نورث بعض الأمثلة لمثل هذا التأثير: إن الناقد بانتش في تفسيره لسفر اللاويين، تعامل مع ما لا يقل عن سبعة تقاليد كهنوتية فاسماها: P، PS، PSS، Ph، Po، Pr، وRp. وكل واحد من هذه المصادر الثانوية قد يتضمن بداخله مصادر من الدرجة الثالثة أو الرابعة. وكل هذا بالإضافة إلى المنقح Rpo,Rph، بل وحتى منقح ثانوي RP5. بل إننا حتى نتقابل مع ما يسمى بالمنقي مثل Po1، Po2، Po5. (North,PC,56)
هناك دراسات حديثة أوجدت مصادر جديدة مثل K ,L, J2, J1 وS تتزايد بكثرة. مما دفع نورث إلى نتيجة منطقية: «يبدو أنه مع إبداع تحليلي كاف سيكون من المتاح أن نميز المزيد والمزيد من هذه الوثائق المتنوعة». (Cited by Abright, OTAP,55)
يلاحظ جرين بوضوح الأسباب التي تكمن وراء مثل هذه التجربة اللانهائية، وهو يقول: «إنها اللعنة المحتومة للفرضية التي تتفاعل مع نفسها. إن المباديء والأساليب الأساسية التي يتم توظيفها في تقسيم التوراة إلى وثائق مختلفة يمكن تطبيقها مع نجاح مشابه وبقوة حجة شبيهة تماماً في تقسيم كل وثيقة إلى المزيد والمزيد من التقسيمات الفرعية غير المحدودة. (Harper, PQ,164)
نفس الملاحظة يلاحظها أليس الذي يشير إلى: «عند تطبيق مباديء وأساليب النقد العالى بانتظام وثبات فإن ذلك سيؤدي إلى الانحلال الكلي للتوراة .... وإن هذا ليس سوى خطأ من جانب النقاَّد بتطبيقهم لها بأسلوب متطرف. (Allis,FBM,89)
ويدق ألن كول ناقوس الخطر: «إن الفرضية الوثائقية القديمة والدقيقة فشلت بشكل كبير من خلال نجاحها نفسه، مع كل الوحدات الأصغر أو الشظايا غير المتصلة التي طالب بها العلماء، بدلاً من مصادر مكتوبة كبيرة ومتواصلة». (Cole,E,13)
5(ب) منطق غير مسئول
إن المغالطة المنطقية التي ارتكبها النقَّاد الراديكاليون لها أسباب متنوعة مثل استخدام الحجج الدائرية التي توصّل كل منها إلى الأخرى حتى تصل إلى الحجة الأولى مرة أخرى. ببساطة فإن هذا الأسلوب يوصّل إلى النتيجة التي يرغب فيها الشخص من خلال مقدماته القياسية، وذلك لتأكيد أن النتيجة المطلوبة هي التي ستنتج في النهاية. وهنا يمكن إيجاد حادثين على الأقل واضحين.
1(جـ) تحديد سمات الـوثائق الأربع (J، E، D، P)
في بنية الوثائق الرئيسية الأربع، تمّ تقدير سمات كل وثيقة سلفاً وبعدها تمَّ نسب كل فقرة تضمّ السمات المناسبة إلى الوثيقة المتطابقة. (Driver, ILOT,13)
والنتيجة أربع وثائق، كل منها يضم محتوى له مسحة مميزة خاصة به. ولكن أن تؤكد بيقين أن هذا يبرهن على الوجود الأصلي لهذه الوثائق الأربع فهذا أمر لاسند له منطقياً. لأن المصادر الناتجة ليست سوى ثمرة لنتيجة هدف مقدَّر سلفاً، يخلو تماماً من أي برهان موضوعي أو أي حادثة مشابهة في عالم الأدب. ومن ثم فإن الحجة تنسج على حلقة مفرغة لا يمكن إثباتها كما أنها عديمة المعنى.
2(جـ) الاعتماد المطلق على المنقّحين
مع تقديم فكرة وجود المنقِّح، أضاف النقّاد الراديكاليون نموذجاً آخر لحلّ ينشأ في افتراضاتهم ولكنه ليس حقيقياً. إن المنقِّح يحدد من منطقهم ليجعله أضعف وأكثر هشاشة لأن وجوده يؤكد أن أي دليل يظهر يمكن - على الأقل فرضياً - أن يتمّ دحضه بواسطة المادة المأخوذة من المنطق والتفكير والتأمل وهي بالتالي لا يمكن قبولها.
ويؤكد أليس أنه: ينسب إلى المنقِّح دور المحرر يصبح مسئولاً عن كل الحالات التي لا يصلح فيها تحليلهم كما ينبغي، بذلك يكون النقَّاد قد لجأوا إلى أداة هدامة لكل مواقفهم. ويقع اللوم في فشل التحليل على النقَّاد في أنهم حلّوا المشكلة على نحو مرض بالاعتماد على منقِّح غير معروف قام بتغيير نصوص مصادره، وهو معادل لتغيير النصّ الحقيقي الذي قام النقَّاد قبلهم به لصالح نظريتهم كما لو كان عليه النص أصلاً. وبوضعه بهذه الطريقة الفظة، فإن هذا هو ما يسمى تطبيب الدليل، وبهذه الوسيلة يمكن لأي نظرية أن يَثبَت صحتها أو دحضها. (Allis, FBM,60)
وهو في مكان آخر يذكرنا أن «كل احتكام إلى المنقِّح هو اعتراف ضمني على أن نظرية النقَّاد تتحطم عند هذه النقطة». (Allis, FBM,39)
الأديب اليهودي الشهير هرمان ويك قام بإجراء بحث على الفرضية الوثائقية، وتستحق استجابته تجاه فكرة المنقِّح أن نسلِّط الضوء عليها. يكتب ويك: «مع اكتشاف المحرِّف جاءت الصعوبات التي طرحها فلهوزن إلى نهايتها. فكأداة للمنطق الجدلي يظهر هذا الشكل بمظهر رائع.. بيد أنه بينما كل شيء آخر يضعف نظرية فلهوزن - كالتركيبة النحوية والتواصل والأسماء الإلهية أو التزييف الواضح للمعنى أو لثقافة وعادات العبرانيين - عندها سرعان ما يلجأ فلهوزن إلى نظرية المحرِّف». (Wouk,TMG,315-17)
3(أ) الفشل النهائي لهذه الفرضية
في كتابه «الفرضية الوثائقية» اهتم الكاتب الراحل أومبرتو كاسيتو بتخصيص ستة فصول كاملة لفحص أهم خمسة معايير يقدمها النقَّاد الوثائقيين لإثبات أن موسى لم يكتب أسفار التوراة. وهو يشبِّه هذه الاعتراضات الخمسة بالأركان والدعائم التي يشيَّد عليها البيت. (وبالطبع هذه الاعتراضات على تأليف موسى للتوراة تساند أيضاً الفرضية الوثائقية). وفيما يتعلق بهذه الأسانيد أو الدعائم للفرضية الوثائقية. يكتب كاسيتو في الفصل الختامي: «إنني لم أثبت أن هذه الدعائم ضعيفة أو أن أي واحدة منها لا تقدم السند الكافي، ولكنني أيقنت أنها ليست دعائم على الإطلاق، وليس لها وجود، وأنها كلها من صنع الخيال. وفي ظل ما سبق، أصل إلى أن خلاصتي النهائية أن الفرضية الوثائقية باطلة وعديمة الجدوى».(Cassuto, DH, 100-1)
وهناك عالم يهودي آخر، وهو م.هـ سيجال، الذي بعد فحصه للمشكلة التوراتية في كتابه «التوراة - نصها ومؤلفها» كتب يقول: «لقد أوضحت الصفحات السابقة لماذا يجب أن نرفض النظرية الوثائقية كوسيلة لتفسير مصدر تأليف التوراة. هذه النظرية معقدة وظاهرية وغير سوية. وهي تقوم على مزاعم لم يثبت صحتها. كما تستخدم معايير زائفة لتقسيم النص إلى وثائق متعددة.
وربما نضيف إلى هذه العيوب سلسلة أخرى من السقطات. إنها تحمل عملها التحليلي إلى مسافات سخيفة، وتتجاهل الدراسة التركيبية للتوراة كعمل أدبي متكامل. ومن خلال أي استخدام غير طبيعي للمنهج التحليلي، أضعفت هذه النظرية من أسفار التوراة وحطت من شأنها لتصير عدداً كبيراً من الشظايا والتواريخ والتشريعات المتفرقة، وحولتها إلى مجموعة من الأساطير المتأخرة والتقاليد المشكوك في أصلها، وكلها تمَّ تجميعها معاً بواسطة مجمِعين في زمن متأخر بخيط ترتيب زمني ظاهري. وهذا تقسيم خاطيء في جوهره. وحتى بقراءة عاجلة للتوراة تكون كافية لإظهار أن الأحداث المدوَّنة فيه مرتبة بترتيب منطقي، وأن ثمة خطة تجمع أجزاءها المتنوعة، وأن هناك هدف يوحِّد كل مضامينها، وأن هذه الخطة وهذا الهدف يتحققان في نهاية التوراة، والتي هي أيضاً نهاية عصر موسى. (Segal, PCA,22)
ومن ثم، يجب أن نعتبر فرضية فلهوزن الوثائقية - في التحليل النهائي فاشلة في محاولتها لتجسيد وإثبات إنكارها لتأليف موسى للتوراة، لصالح نظرية المصادر المتنوعة (JEDP).
4(أ) بعض التعليقات الختامية
1(ب) يصف العالم اليهودي كوفمان الوضع الحالي للأمر:
إن حجج فلهوزن يتمّ طرحها بشكل جيد، وتعرض ما يبدو أساساً راسخاً يمكن عليه بناء النقد الكتابي. ولكن، الدليل والحجج التي تساند هذا الهيكل قد وضعت محل استفهام، وإلى حد ما تعرضت للرفض. والآن، فإن دراسات نقد الكتاب المقدس وغم اعترافها أن الأساسات قد انهارت تماماً، إلا أنها مازالت مستمرة وملتزمة بالنتائج. (Kaufman, RI,1)
2(ب) يتحدث مندنهال عن القبول المستمر لأحكام النقد الوثائقي التي يقدمها بشأن تطور الفكر الديني: «إنها على الأقل شكوكاً لها ما يبررها في التزام الباحث تجاه الدراسات التي أجريت في الماضي، بدلاً من اعتماده على الدليل التاريخي. هذا هو الأساس الرئيسي لموقفهم». (Mendenhall, BHT,36)
3(ب) ويضيف برايت أنه حتى اليوم مازالت الفرضية الوثائقية تلقى قبولاً عاماً، ويجب أن تكون نقطة البداية لأي مناقشة. (Bright, HI,62)
4(ب) يروي العالم اليهودي الشهير كيريوس جوردن عن الالتزام الأعمى لكثير من النقَّاد بالنظرية الوثائقية: «عندما أتحدث عن الالتزام بنظرية تعدد المصادر، فأنا أعنيه بأعمق ما تعنيه الكلمة. لقد سمعت علماء أكاديميين في الكتاب المقدس يشيرون إلى كمال وسلامة فكرة تعدد المصادر باعتبارها قناعتهم ويقينهم. وهم عازمون على قبول التعديلات في تفاصيلها. كما يسمحون بتقسيم المصدر التثنوي (D) إلى (D3,D2,D1 وهلما جرا)، أو يسمحون أيضاً بدمج المصدر اليهوي J إلى المصدر الإلوهيمي E ليصير JE، أو بإضافة وثيقة جديدة تصنَّف تحت مصدر آخر جديد، لكنهم لن يحتملوا أي سؤال عن البنية الأساسية للمصادر.(Gordon, HCFF, 131)
ويختتم جوردن بـ: «إنني مرتبك ومتحير في شرح هذا النوع من القناعات على أي أساس غير التكاسل أو عدم القدرة على التقييم الجديد وإعادة النظر». (Gordon,HCFF,131)
5(ب) أما العالم البريطاني هـ.هـ. رولي فلن يرفض هذه النظرية ببساطة لأنه لا يجد ما هو أفضل ليحلّ محلها. مع أن «نظرية فلهوزن لاقت رفضاً على مستوى واسع بجملتها أو أجزاء منها، ولكن لا يوجد رأي آخر يمكن أن يحل محلها ولا يلقي المزيد والمزيد من الرفض بصورة أكثر اتساعاً وتأكيداً.. إن وجهة نظر (جراف - ويلهوزن) ليست سوى فرضية عاملة، يمكن أن يتم التخلي عنها بسهولة عندما نجد وجهة نظر مقنعة أكثر». (Rowley,GOT,46)
وطبقاً لهذه الفكرة يصير من الأفضل التمسك بنظرية باطلة عن الاعتراف بعدم الاقتناع بنظرية على الإطلاق.
6(ب) يختتم كيريوس چوردن مقالاً له انتقد فيه بشدة نظرية فلهوزن بأكملها. فيقدم مثالاً صارخاً لهذا الإخلاص الذي لا نزاع عليه للفرضية الوثائقية: «ذات مرة سألني أستاذ جامعي في الكتاب المقدس بأحد الجامعات الكبرى، وطلب مني أن أوضِّح له حقائق نظرية تنوع المصادر. فأخبرته أساساً بما كتبته فيما سبق. فأجابني:«أنا مقتنع بما تقوله ولكني سأستمر في تدريسي للنظام القديم»، وعندما سألته عن السبب أجابني: «لأن ما أخبرتني به يعني أنه يتحتم عليَّ أن أتوقف عن التعليم وأبدأ في الدراسة بشكل جديد وأعيد النظر في الأمور. ومن الأسهل الاستمرار مع النظام المقبول للنقد العالى الذي لدينا فيه نصوص كتابية قياسية ثابتة». (Gordon, HCFF,134)
7(ب) مثل هذا التصريح يبدو أنه يبرر شكوك مندنهال في كثير من النقَّاد الوثائقيين: «من الأسهل كثيراً اتِّباع النموذج المقبول من القرن التاسع عشر، خاصة طالما أنه لاقى بعض التوقير الأكاديمي غالباً من خلال الإهمال، والاقتناع بتحديد قليل من عدم التواؤم هنا وهناك والتي سوف تظهر أن هناك من يهتم بتحديث النصّ. (Mendenhall, BHT, 38)
8(ب) هرمان ويك المؤلف والأديب اليهودي، مع كونه ليس عالماً كتابياً محترفاً، إلا أنه يمدنا ببعض الاقتراحات الأمينة عن السبب الذي يكمن وراء بقاء القبول الأساسي بشكل عام للنظريات التي قدمها لفلهوزن وأتباعه. في كتابه: «هذا هو إلهي»، يعرض ويك هذا التقييم الصائب: «من الصعب على الرجال الذين أفنوا حياتهم في نظرية، وعلَّموها للشباب الصغير، أن يروها تسقط وتنهار تماماً». (Wouk, TMG,318)
ويضيف إلى ذلك: «ما وجده العلماء أخيراً أن التحليل الأدبي ليس
بالمنهج الكافي. فالأسلوب الأدبي مرن ومانع، ومتحول، وهو على
أفضل تقدير قابل للتعديل والتغيير مثل الكتابة على السبورة
نجدها في صفحات تشارلس دكنز. كما أن سكوت كتب فصولاً من كتابات
مارك نوين، وسنبوزا يمتليء بأعمال هوبز وغيره، كان شكسبير هو
أعظم صدى للجميع وأعظم مصمم للجميع. إن التحليل الأدبي استخدم
لعدة أجيال بواسطة رجال مفرطين في إثبات أن الجميع فيما عدا
شكسبير كانوا هم شكسبير. وأنا أعتقد أن التحليل الأدبي يمكن
استخدامه لإثبات أنني كتبت رواية ديفيد كوبر فيلد ودون كيشوت،
وهو ما كنت أتمنى أن يحدث. (Wouk, TMG,317)
|