1(أ) افتراض أساسي
إن كتابات العهد الجديد لا تقدم صورة تاريخية حقيقية ليسوع.
يقتبس رودلف بولتمان عن فلهوزن قوله: «إن روح يسوع بلاشك تتنفس في التعبيرات التي تستمد من جماعة أورشليم، ولكننا لا نستمد صورة تاريخية ليسوع نفسه من ما تصورته تلك الجماعة عن يسوع. (Bultmann, NASP,341)
سعياً لترسيخ أساس للبحث التاريخي عن يسوع، يذهب فلهوزن إلى القول: «علينا أن ندرك أن عملاً أدبياً أو جزءاً من التقليد، كان هو المصدر الرئيسي للموقف التاريخي الذي خرجت منه كتابات العهد الجديد، ولكنه ليس أكثر من مصدر ثانوي للتفاصيل التاريخية التي تمدنا بالمعلومات الحقيقية». (Bultmann, NASP, 341)
هذا التأكيد يقودنا إلى رؤية الأناجيل كمصدر ثانوي للحقائق التي تتعلق بيسوع، ويتفق معه ج.مارتن: «يجب أن يتم التعامل مع الأناجيل باعتبارها ترجمة يمكن الاعتماد أو الثقة بها عما كانت الكنيسة تؤمن به في زمن الكتابة فيما يتعلق بالحقائق التي تأسس عليها إيمانها. (Martin,RG,44)
ولذلك فإن ر.هـ. ليتفوت الناقد الشهير يلمِّح قائلاً: «يبدو أن شكل المسيح الأرضي في معظمه يستتر عنَّا ربما ليس أقل من المسيح السماوي. فمع كل القيمة الثمينة للأناجيل، إلا أنها تمنحنا أكثر من همسات من صوته، ونحن نتتبع ونقتفي الأثر فيها ولكن في طرق هامشية». (Lightfoot, HIG,225)
1(ب) رأي البرت شفايتزر
قاد الناقد البرت شفايتزر البحث المتعلق بيسوع التاريخي، وهو يسوع الذي يمكن إثبات وجوده بطريقة صحيحة وموضوعية (خارج الكتاب المقدس والخبرة المسيحية). وهو يكتب: «إن يسوع الناصري الذي جاء كمسِّيا، والذي وعظ بأخلاق ملكوت الله والذي أسَّس ملكوت السموات على الأرض، ومات ليمنح عمله تقديساً تاماً ونهائياً لم يكن له أي وجود على الإطلاق. إنها صورة ابتكرها أتباع المذهب العقلي، وقام الليبراليون بمنحها الحياة، وكساها اللاهوت الحديث زياً تاريخياً». (Schweitzer, PSJ,396)
ويستمر شفايتزر بملاحظته عن مشكلة دراستنا ليسوع التاريخي، والتي هي في حد ذاتها، كما يقول، خلفيتها غريبة وشاردة:
إن دراسة حياة يسوع تحفل بتاريخ عجيب. وهي تضع يسوع التاريخي محل بحث دقيق، وتعتقد أنها عندما وجدته أمكنها أن تحضره مباشرة إلى عصرنا الحاضر كمعلم ومخلِّص. لقد قطعت الروابط التي ظلت تتمسك بها بإحكام لقرون بالصخرة الحصينة الخاصة بعقيدة الكنيسة، وابتهجت برؤية الحياة والحركة تأتي إلى هذه الصورة، وشاهدت يسوع التاريخي يتقدم كما يبدو ليلاقيها. لكنه لم يمكث معها فلقد مرَّ بوقتنا وعاد إلى وقته. (Schweitzer,PSJ,397)
2(ب) رأى مارتن ديبليوس
شكّك ديبليوس في الأهمية التاريخية ليسوع: «لم يكن لدى المسيحيين الأوائل أي اهتمام بتسجيل حياة وآلام يسوع بصورة موضوعية كشهادة للبشرية. لكن كل ما كانوا يرغبون فيه هو ربح أكبر عدد ممكن للخلاص في الساعة الأخيرة قبيل نهاية العالم، والتي آمنوا أنها على وشك الحدوث، فهؤلاء المسيحيون الأوائل لم يكن لديهم أي اهتمام بالتاريخ». (Dibelius, GCC.16)
وفي هجومه على موضوعية سرد الأحداث في الكتاب المقدس، يركز ديبليوس على فكرة «الدعاية» المسيحية التي غيمت وغشت الصورة التاريخية الحقيقية: «ونجد أمامنا عجزاً آخر في تاريخية التقليد تنجم عن هذا التركيز للاهتمام على التطبيق التبشيري. فالقصص يتم تصميمها وتجهيزها بأسلوب محدد، حتى يُقال ما سمعوه، ولكن بطريقة تم تجميعها لكي تهذب المؤمنين ولترد وتهزم غير المؤمنين. ولذا فهي ليست روايات موضوعية للأحداث». (Dibelius, GCC,76)
3(ب) رأي رودلف بولتمان
كثيراً ما طفت نزعة الشك في الحق التاريخي لحياة يسوع على سطح لاهوت بولتمان: «إنني أعتقد بالفعل أننا الآن لا نستطيع تقريباً أن نعرف أي شيء بشأن حياة وشخصية يسوع، طالما أن المصادر المسيحية المبكرة لم تبد اهتماماً بكليهما، ولكنها علاوة على ذلك فهي مؤلفة من شظايا أو شذرات عديدة تتسم بالطابع الأسطوري، وأي مصادر أخرى عن يسوع ليس لها وجود». (Bultmann, JW,8)
وهو يؤكد أن: «شخصية يسوع وتلك الصورة البراقة التي عرفناها عن شخصه وحياته لا يمكن الآن الاستدلال من صحتها». (Bultmann,FC, 61)
يعلِّق بولتمان على المنهج التاريخي لبحث الكتب المقدسة، ونظرته للكيفية التي ينبغي بها تفسير أو بمعنى أصح (دحض) أي حادث في الكتاب المقدس كالمعجزات مثلاً:
إن المنهج التاريخي يتضمن الافتراض المسبق أن التاريخ هو من ناحية كمية وحدة متصلة مغلقة من التأثيرات التي تتجمع فيها الأحداث الفردية بتتابع السبب والنتيجة. وهذا لا يعني أن عملية التاريخ تتحدد بواسطة القانون العرفي وأنه لا يوجد أي قرارات حرة للبشر الذين تحدد تصرفاتهم وأفعالهم في سياق الأحداث التاريخية. ولكن حتى القرار الحر لا يحدث بدون سبب، أو بدون دافع. ومهمة باحث التاريخ هي الوصول إلى معرفة الدوافع التي وراء الأفعال. كل القرارات وكل الأفعال لها أسبابها وعواقبها، والمنهج التاريخي يفترض أنه من الممكن مبدئياً أن نعرض هذه الأسباب والنتائج وصلاتهم ومن ثم يمكن فهم العملية التاريخية بأكملها باعتبارها وحدة مغلقة.
هذا الانغلاق يعني أن الكتلة المتصلة من الأحداث التاريخية لا يمكن أن يمزقها تدخُّل قوى خارقة ومتعالية وفائقة، ومن ثم فلا يوجد ما يسمى «بالمعجزة» بمعنى الكلمة. مثل هذه المعجزة لن تكون سوى حدث يذكر سببه في التاريخ.. وبموجب مثل هذا المنهج فإن علم التاريخ يفحص الآن كل الوثائق التاريخية ولا يمكن أن يكون هناك أي استثناءات في حالة النصوص الكتابية، وبذلك لا يستثنى الكتاب المقدس من هذه النظرية. (Bultmann, EF,291-292)
وهو يضيف: كل هذه تؤدي إلى إظهار أن اهتمام الأناجيل بعيد تماماً عن المؤرخين في العصر الحديث، فالمؤرخون يمكن أن يحرزوا تقدماً نحو استخلاص حياة يسوع فقط بواسطة عملية التحليل النقدي. ولكن الأناجيل من جهة ثانية تعلن عن يسوع المسيح وكأن المقصود من ورائها أن تتم قراءتها كإعلانات. (Bultmann, FC,70)
ليس ما يشغل بولتمان هو فحص وجود يسوع من عدمه، ولكن بالأحرى هو فحص مدى الموضوعية والصدق عند كتَّاب الأناجيل.
ويتوصل بولتمان إلى : «إن الشكوك بشأن هل وجد يسوع حقاً هي شكوك لا أساس لها ولا تستحق التفكير فيها. فليس من شخص عاقل يمكن أن يشك في أن يسوع يقف كمؤسس وراء الحركة التاريخية التي كانت أول مراحلها الواضحة ممثلة في الجماعة الفلسطينية الأقدم. ولكن إلى أي مدى حافظت هذه الجماعة على صورة موضوعية حقيقية له ولرسالته، هذه هي قضية أخرى محل فحص وجدير بالدراسة». (Bultmann, JW,13)
ويوجز فولر وجهة نظر بولتمان: «بولتمان يقول إن كل ما نعرفه أن يسوع أُعدم على يد الرومان باعتباره مجرماً سياسياً. ولكن ليس باستطاعتنا أن نقول الكثير بعد ذلك». (Fuller,NTCS,14)
إن المذهب الشكي المفرط الخاص ببولتمان لم يلق نفس التأييد من قبل ديبليوس، وهو يعترف بأن بعضاً من أقدم القطع الأدبية من التقليد «مذكرات أصيلة» سجلها شهود عيان.
4(ب) رأي ارنست كازمان
ارنست كازمان باعتباره تلميذاً سابقاً لبولتمان يرى: «لم تكن الأهمية التاريخية وإنما الرغبة في التبشير بالمسيح هي التي سيطرت عليهم (المقصود الوحدات الفردية من التقليد الإنجيلي). ومن هذه النقطة يصبح من الممكن فهم أن هذا التقليد - أو على الأقل الأغلبية الساحقة منه - لا يمكن أن نطلق عليها أصيلة أو موثوق فيها. فلا يوجد سوى بعض كلمات قليلة من الموعظة على الجبل، ومن صراعه مع الفريسيين، وعدد من الأمثال وبعض المواد المبعثرة من مختلف الأنواع تُرجع بأي درجة الاحتمالية التي تؤيد أن يسوع المسيح هو نفسه يسوع التاريخي. ومن بين أعماله نحن لا نعرف غير أنه كان يمتلك شهرة بأنه صانع معجزات وأنه أشار بنفسه إلى قدرته على طرد الأرواح الشريرة وأنه صُلب في النهاية على يد بيلاطس البنطي، وقد حلَّت العظات التي قيلت عنه تقريباً بشكل كلِّي وتامّ محل عظاته وتعاليمه هو، ويبدو هذا بأكثر وضوحاً في إنجيل يوحنا الذي ليس فيه أي قدر على الإطلاق من التاريخية. (Kasemann, ENT, 59-60)
يقول كازمان في اقترابه من مشكلة التنقيح التاريخي لمادة الإنجيل بواسطة الجماعة لتوضيح المفارقة التناقض الظاهري بأقصى وضوح ممكن: «إن الجماعة تحمَّلت الكثير من العناء لتحافظ على الاستمرارية التاريخية معه، ذلك الشخص الذي خطا ذات يوم على هذه الأرض، حتى سمحت للأحداث التاريخية لهذه الحياة الأرضية أن تتجاوز بشكل عام (على الأغلب) إلى النسيان وتستبدلها برسالتها الخاصة». (Kasemann, ENT,20)
كما أن تركيزه على تحديد الارتباط الوجودي للإنسان مع الصليب، بدلاً من الإيمان القائم على وقائع التاريخ، جعلته يتوصل إلى أن: «لهذا السبب فإن العنصر التاريخي في قصة يسوع، في هذه الكتابات الأخرى، قد انكمش تقريباً إلى نقطة التلاشي». (Kasemann, ENT,21)
2(أ) الــــــــــــرد
إن نتيجة استعمال الشك التاريخي لنقّاد الشكل يشرحه لادد: «ابن الله المتجسد في يسوع الناصري يصير مجرد منتج وليس الخالق كما في الإيمان المسيحي. ولا يعد ينظر إليه باعتباره مخلِّص الجماعة المسيحية». (Ladd, NTC,147)
1(ب) نتيجة اتّباع بولتمان
ماذا يتبقى بعد أن قام بولتمان وأتباعه بحذف وإزالة معظم مادة الإنجيل من التقليد حيث رأى فيها مواداً غير صحيحة تاريخياً، وإضافات وادِّعاءات من الجماعة المسيحية الأولى؟
يقول بيتر ج. دونكر عن ماذا إذن تبقَّى:
يسوع الجليلي، الذي يعتقد في نفسه أنه نبي، والذي بالضرورة قد تكلَّم وتصرف بناء على ذلك، بدون أن نكون قادرين على أن نقول بالضبط ماذا كان يقول وكيف كان يتصرف وهو في النهاية مات بطريقة مؤسفة. أما الباقي كله في حياته: أصله الإلهي، إرساليته للخلاص، البرهان الذي قدَّمه من خلال كلماته ومعجزاته، وأخيراً القيامة والتي ختمت بالضمان على كل عمله، كل هذه في نظرهم مجرد خيال محض، نتج عن الإيمان والعبادة، وأحاطت به تقاليد أسطورية والتي تكوَّنت أثناء فترة التبشير والوعظ ودفاعات وجدالات الجماعة المسيحية المبكرة. (Duncker, BC, 28)
قدَّم دايفيد كارينس هذه الاستنتاجات عن شكل لاهوت بولتمان والذي هرب من التاريخي إلى الوجودي: «ما نخلص إليه: أنه لا يوجد أي تبريرات قدمها بولتمان في مساندة طيرانه من التاريخ حاملاً الإيمان. فالمغامرة كلها تشبه كثيراً قطع رأس شخص لعلاجه من الصداع. (Cairns,CWM, 149)
لاحظ ألوين مظهراً مرعباً نتج عن اسلوب بحث بولتمان للعهد الجديد عندما ادرك أساس بولتمان الوجودي: «أليس هذا مظهراً مزعجاً في تفسيره لرسالة العهد الجديد، عندما تصير الحقيقة التاريخية ليسوع الناصري التاريخي مجرد لغز نسبي؟ وهذا يعني أن ظهور إعلان الله والذي يفترض أنه اتخذ شكلاً جسدياً وتاريخياً في يسوع يتلاشى، ولا تقوم له قائمة». (Ellwein, RBIK,42)
يستمر ألوين: «كل ما يتبقى بالتحديد هو الوعظ فقط، عبارة عن نقطة رياضية ليس لها أي امتداد، لأن هذا الامتداد سوف يُظهر بطريقة غير شرعية الدنيوية الأخرى إلى شيء ما من هذه الدنيا». (Ellwein, RBIK, 42)
إن رغبة بولتمان لاستبعاد الإطار والتحليل التاريخي «قد ترك وراءه نصَّاًً مشوهاً، لا يفيد المسيحيين الأوائل ولا المحدثين». (McGinley,FCSHN,70)
2(ب) الروايات التاريخية للتلاميذ
يذكر برتيز أن هدف التلاميذ كان تدوين الأناجيل، وهو يؤكد أنه: «إذا فعلنا مثل نقَّاد الشكل وأكدنا أن التلاميذ الأوائل ليسوع كانوا ينتظرون ويتوقعون سرعة نهاية الأيام، ولم يكن لديهم أي اهتمام بالتاريخ، ربما كان ذلك صحيحاً على جماعة صغيرة، ولكن ذلك لم يكن حقيقياً بالنسبة للجميع. ولو كان ذلك هو حقيقة على الكل، فكان من المفترض ألا توجد أية أناجيل مسجلة. وكلمة لوقا عن «الكثيرين» الذين أخذوا بتأليف قصة عن الأمور المتيقنة لم يكن لها وجود». (Peritz,FCE,205)
يقارن شروين- وايت بين أساليب كتابة التاريخ التي استخدمها الكتَّاب الرومان ومثيلتها عند كتاَّب الأناجيل. وتوصل أنه: «من الممكن التأكيد بأن من لديهم اهتمام متحمس بقصة المسيح، حتى لو كان اهتمامهم بالأحداث غير منتظم وجدلي بدلاً من تاريخي، فإن هذه الحقيقة لن تدفعهم لتجنُّب الجوهر التاريخي لهذه المادة أو تشويهها. (Sherwin-White,RSRLNT,191)
يعلق ف.ف.بروس على الدقة التاريخية لإنجيل لوقا: «إن الرجل الذي يمكن إثبات دقته وصحة كلامه في أمور يمكننا أن نختبرها يكون غالباً دقيقاً حتى عندما لا تتاح الوسائل التي تمكننا من اختباره. فالدقة هي عادة أو سلوك عقلي، ونحن نعلم من خبرة سارة (أو غير سارة) أن بعض الناس من عادتهم الدقة تماماً، كما أن آخرين يمكن أن تكون عدم الدقة من عاداتهم. وسِجِّل لوقا يؤهله أن يعتبر كاتباً دقيقاً عادة. (Bruce, NTDATR,90)
ويبرر بلاكمان مدى إمكانية الوثوق والاعتماد على كتّاب الأناجيل عندما يشير إلى:
«إن وعي لوقا بأن تاريخ الخلاص المتعلق بيسوع الناصري هو جزء من التاريخ ككل. وفي هذا لا يختلف لوقا تماماً مع رفاقه الإنجيليين، فجميعهم كانوا على وعي بأنهم يسجلون أحداثاً حقيقية قامت بها شخصية تاريخية حقيقية. ومن أجل كل جهودهم لخلْق إيمان بهذا الشخص، وللشهادة للقوة الإلهية التي تحرَّكت من خلاله، من أجل هذا السبب أساساً قاموا بكتابة الأناجيل، ولم يكن لهم الحرية في تلفيق أو تزييف المعلومات التي قدمتها تقاليد كنائسهم عما حدث في الجليل واليهودية قبل جيل مضى. (Blackman,JCY,27)
3(ب) شخصية يسوع الفريدة
باعتبار أن شخصية يسوع الفريدة هي أساس ودعامة أصالة العهد الجديد، يقدم ف. سكوت ملاحظة عن الهجوم الذي يشنُّه النقَّاد: «كان من الصعب تحدِّي حججهم لو كانوا قد ركَّزوا على بطل آخر من العصور القديمة، ولكن فقط لأنهم يتناولون بنقدهم حياة يسوع فلذلك يتم النظر إليهم بارتياب. (Scott,VGR,1)
لو أن شخصاً سيحكم في مدى تاريخية يسوع، يجب أن يتمّ الحكم بعدم تحيز وبموضوعية مثله مثل أي رمـز تاريخـي. ويهـدف ف.بروس إلى أن يقول إن «تاريخية المسيح هي أمر بديهي تماماً للـمؤرخ المنصـف غير المتحيز تماماً كتاريخية يوليـوس قيصـر، فليس المؤرخون الأمناء هم من يبثون نظريات «أسطورة المسيح». (Bruce,NTDATR,119)
لقد رحَّب المبشرون الأوائل للمسيحية بالتدقيق الكامل لرد فعل المتلقين لرسالتهم. كما أن الأحداث التي أعلنوها - كما قال بولس للملك أغريباس - لم تحدث في زاوية وإنما كانت قادرة على احتمال كل النور الذي يسَّلط عليها. كان لزاماً علي روح هؤلاء المسيحيين الأوائل أن تشجع من سيأتون بعدهم من أجيال، لأنه بواسطة الاطِّلاع على البرهان المناسب لن يكونوا فقط قادرين على أن يجاوبوا على كل من يسألهم عن سبب الرجاء الذي فيهم، لكنهم هم أنفسهم سيكونوا مثل ثاوفيلوس عارفين بتدقيق أكثر مدى صحة ومتانة أساس الإيمان الذي تعلموه. (Bruce, NTDATR, 119-120)
ولا يرى مونتجومري أن ما يدعَّيه كتَّاب الأناجيل بشأن شخصية يسوع التاريخي يمكن أن يكون موضعاً لمشكلة فهو يقول:
عدم القدرة على تمييز دعاوي يسوع عن نفسه في العهد الجديد وتفريقها عن دعاوي كتَّاب الأناجيل عنه لا ينبغي الا تسبب أي فزع طالما:
(1) الموقف يتطابق تماماً لدى كل الشخصيات التاريخية البارزة الذين لم يختاروا بأنفسهم الكتابة عنهم.
مثال: الاسكندر الأكبر، أغسطس قيصر، شارلمان، من الصعب علينا أن ندَّعي أنه في هذه الحالات من الصعب أن ننجز صورة تاريخية كاملة لهم.
(2) كتَّاب العهد الجديد سجلوا شهادة شاهد عيان عما شاهدوه في حياة يسوع ومن ثم يمكن الثقة في تقديم صورة تاريخية دقيقة عنه. (Montgomery,HC,48)
4(ب) الكتابات التاريخية القديمة
يعرض ج.ب. مورلاند القضايا الرئيسية: «هل كان المؤرخون القدماء قادرين على تمييز الحقيقة من الخيال؟ وهل هناك أي دليل على أنهم كانوا يرغبون في هذا التمييز؟ إن كل أعمال المؤرخين اليونانيين والرومان واليهود ربما أثَّرت في كتَّاب العهد الجديد». (Barrett, MNT,87)
من ثم، فهناك اعتراض شديد كثيراً ما يوجَّه ضد الأناجيل كوثائق قديمة، هذا الاعتراض يقوم على أن مؤلفي الأناجيل (كذا مؤلفي الوثائق القديمة الأخرى) عاشوا في فترات تاريخية مختلفة حيث لم تكن الدقة في عرض الوقائع أمراً ذا قيمة.
ويواصل مورلاند المناقشة لبعض البراهين:
بين الكتَّاب اليونانيين، هناك الكثيرون ناقشوا أهمية تقديم سرد دقيق لما حدث فعلاً. فها هو هيرودوتس يؤكد على دور شهود العيان في التوثيق التاريخي كذلك فإن على المؤرخين أن يقيِّموا ويثبتوا صحة ما يؤرخونه باستخدام عقولهم. كما يجب أن يتم التعامل ما يكتب عن الخوارق والحوادث المعجزية بشك وارتياب، كما حاول ثيوسيدس أن يقدِّر مدى دقة التقارير التي وصلت إليه، وفي كتابه «تاريخ الحرب» اعترف أنه من حين لآخر كان يلفِّق ويخترع أحاديث. ولكن في هذه الحالات كان يحاول أن يفعل ذلك بتماسك واتساق مع ما هو معروف عن المتحدث. وفي جميع الأحوال لم يكن من السهل عليه تلفيق رواية. بينما على الجانب الآخر نجد أن يوليبيوس كان لديه معياراً دقيقاً للغاية. وقد دافع عن التدقيق في المصادر والموضوعية، كما وبَّخ وانتقد التفكير الخرافي والمحبة النسائية للمعجزات. كما دافع أيضاً عن الفحص والتدقيق في شهادة شهود العيان الموثوقين. (Barrett, MNT,88)
يختتم أ.و موسلي مقاله «السرد التاريخي في العالم القديم» بالمحصلة التالية: «تُظهر القصص بوضوح أن سؤال: هل هذا حدث بهذه الطريقة؟ كان سؤالاً مفهوماً للناس الذين عاشوا في تلك الفترات، وكان سؤالاً كثيراً ما يتم طرحه، فالناس الذين كانوا يعيشون وقتها كانوا يعرفون أن هناك فرقاً بين الحقيقة والخيال، ويقرر موسلي علاوة على ذلك:
بشكل عام كان من الأسهل أن يكون الكاتب غير دقيق عندما يتعامل مع أحداث وقعت قبله بفترة طويلة. لكن الكتَّاب الذين كانوا يتعاملون مع الأحداث التي وقعت في وقت قريب منهم، أو شهود العيان الذين مازالوا على قيد الحياة، يبدو أنهم عموماً حاولوا إتيان الدقة بقدر المستطاع والحصول على المعلومات من شهودها. وهم علموا أنهم لن يستطيعوا أن يفلتوا بفعلتهم لو اخترعوا قصصاً وهمية عن أحداث وأشخاص من الماضي القريب. ونحن نلاحظ أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي الشهير اتَّهم يوستوس بأنه امتنع عن نشر تاريخه إلى أن اختفى كل شهود العيان، وهذا أمر مدان بشدة. ولقد رأينا أن هؤلاء المؤرخين (مثل لوسيان، ديونيسيوس، بوليوس، افوريوس، كسيسرو، يوسيفوس وتاسيتوس) كانوا يسرعون في نقد زملائهم المؤرخين إذا قدموا روايات غير دقيقة. والشخص الذي يقدم سرداً غير دقيق لشيء ما حدث كان يعتبر فاشلاً - بشكل ما. ونحن نتوقع أن نجد أن مثل هذه الاتهامات كانت ستوجَّه ضد كتَّاب العهد الجديد لو كانوا قد فشلوا في هذا الأمر. (Mosely, HRAW,26)
لم يثبت فحصنا أي شيء حاسم ومقنع بشأن توجُّه كتَّاب العهد الجديد نحو كتابة تاريخ التقاليد التي استلموها ونقلوها لمن بعدهم عن يسوع التاريخي، لكنها خرجت باقتراح أننا ينبغي ألا نفترض من البداية أنهم لم يكن لديهم اهتمام بمسألة الأصالة والمصداقية. ومن الممكن تماماً أن الناس كانوا مهتمين بتمييز أي التقارير كانت صحيحة فعلياً وأيها يكون تلك التي تأثرت بتطور ونمو التقليد الكنسي. وكلاهما تمَّ في الفترة حيث كانت تلك التقارير تنقل شفهياً، وفيما بعد تمَّت كتابة هذا التقليد وتدوينه. (Bowman, FSB,26)
5(ب) وجهة نظر النقاد - هل هي نزيهة حقاً؟
يكتب ردليش في اعتراضه على وجهات النظر الشخصية لنقَّاد الشكل: «ليس بالضرورة أن يتطابق النقد التاريخي مع الرأي الشخصي للناقد عن الحقيقة التاريخية لرواية أو قول، بينما ذلك يحدث دائماً عند نقَّاد الشكل. فالحكم التاريخي هو حكم تقييمي للتاريخ، وليس له صلة بقوانين التقليد أو بالسمات الشكلية». (Redlich, FC,11)
يعتقد ماكنيل أن نقَّاد الشكل قد شطحوا كثيراً في إلقاء الأحكام على محتويات الأناجيل، لأن منهجهم هو منهج أدبي - وليس تاريخي. (McNeile, ISNT,54)
أما ج. لادد فيقول: يجب أن يتم إدراك أن النقد الكتابي الحديث لم يكن ثمرة لمدرسة مؤمنة مهمومة بفهم أفضل للكتاب المقدس ككلمة الله في وضعها التاريخي، ولكنها مدرسة رفضت دعاوي الكتاب المقدس بأنه كلمة الله الموحاة بطريقة تفوق للطبيعة. (Ladd,NTC,38)
6(ب) خاتمة
يختتم بنويت كلامه قائلاً: «ربما لم يبد المسيحيون اهتماماً بالتاريخ، لكنهم بكل تأكيد كانوا مهتمين بما هو تاريخي. ربما لم يرغب الوعاظ أن يسردوا كل شيء عن يسوع، ولكنهم بالتأكيد لم يرغبوا أن ينسبوا إليه أي شيء غير حقيقي». (Benoit,JG,32)
يطرح بنويت السؤال التالي: «هل من المعقول أن المهتدين الجدد قبلوا إيماناً جديداً، تطلب الكثير من الجهد منهم، فقط على أساس مجرد جلسات لنشر الشائعات، والذي على أساسه قام وعَّاظ بولتمان وديبليوس بتلفيق واختراع أقوال وأفعال لم يقم بها يسوع على الإطلاق؟ (Benoit, JG,32)
يلاحظ فيلسون النتيجة النهائية للتوسُّع في الشكوك التاريخية لنقَّاد الشكل:
لو أن الأناجيل تعكس حياة وأفكار الكنيسة الأولى، فهنا تثور مشكلة مدى إمكانية الاعتماد على هذه المادة لدراسة حياة يسوع، وهذا ما يشدد عليه بوضوح نقَّاد الشكل. وعندما يُظِهر أحد عناصر التقليد عنصراً من عناصر الاهتمام للكنيسة المتطورة، أو سمة هيلِّينية، يتم رفضها من أن تكون بيانات صالحة للاستعمال عن حياة يسوع، طالما أن كل المادة كانت تستخدمها الكنيسة، فإن هذا المذهب الشكي ربما يذهب بعيداً إلى حد إنكار أننا نملك أية بيانات يمكن الاعتماد عليها متبقية لرسم صورة ليسوع التاريخي.(Filsom,OG,99)
في تأكيده على الحاجة لدليل خارجي، يتمسك البرايت بأن «أصالة وتاريخية أية بيانات لا يمكن قيامها بشكل قاطع أو رفضها ودحضها تماماً من خلال الإطار الأدبي الذي تمَّ صياغتها به، حيث يجب أن يتواجد دائماً دليل خارجي». (Albright, ICCLA,12)
ويضيف البرايت: «من وجهة نظر المؤرخ المحايد لا يمكن دحض بيانات من خلال الإطار الأدبي العرضي الذي تمَّ صياغته فيه، إلا إذا تواجدت أسباب قوية ومستقلة لرفض تاريخية عدد من البيانات الأخرى الموجودة في نفس الإطار». (Albright, FSAC,293- 294)
أخيراً، يجب أن يتمّ التعرف على شهادة المؤرخين المعاصرين لأيام يسوع، ويؤكد لورنس ج. ماكجينلي:
في أي دراسة للأناجيل المتوافقة عن المسيح، سواء كانت تركيز ديبليوس على النقل والتجميع أو التصوير التاريخي لبولتمان للتقاليد المتوافقة التي تتصل بالمسيح من الأصل إلى الصورة النهائية، هناك شيء يجب أن يقال من أجل الشهادة التاريخية. ولكنها ليست كذلك! الشهادة الخارجية مثل ايريناوس وترتليان واوريجانوس من الملاحظ أنها لاتشير لذلك. كما أن ما ذكره چاستن مارتر أن الأناجيل مجرد مذكرات رسولية إنما قيل ذلك فقط لكي يتم رفضه باعتباره تشويه للحقائق. شهادة بابياس عن إنجيل متى ومرقس ليست أقل من ذلك. يشير بولتمان إلى مرجعية بابياس لإنجيل مرقس كمفسر وناقل لكلام بطرس - بأن ذلك خطأ، ويشير ديبليوس إلى شهادة بابياس على مؤلفاً متى ومرقس، ولكنه يختتم بأنه أخطأ في اعتقاده بأن البشيرين هم فعلاً مؤلفو الأناجيل. وهذا الرفض للشهادة التاريخية يبدو أنها تُظهر عجزاً في الفكر المترابط والمنظور الشخصي لكل منهما.
وكما يعلق دي جراندمايسون: إن أحكم منهج في هذه الأمور أن يتمّ تفضيل حفنة صغيرة من المعلومات التاريخية القديمة التي ثبت صحتها وأصالتها عن أي مقدار ضخم من الخزعبلات غير المؤكدة أو الدقيقة. (McGinley, FCSHN,22-23)
ويصرح نورمان بيتنجر قائلاً: دعنا نتأكد تماماً أن كل المحاولات لإنكار تاريخية يسوع قد باءت بالفشل. (Pittenger, PHJ,89-90)
3(أ) بإيجاز
1(ب) يفترض نقد الشكل أن العهد الجديد يصوِّر لنا ما كانت الكنيسة الأولى تؤمن به أنه حقيقة يسوع، بدلاً مما هو حقيقة فعلاً.
2(ب) الرد على ذلك: أن كل ما توصَّل إليه بولتمان فيما يتعلق بعدم مصداقية الأناجيل تاريخياً غير مقبول، لأن المسيحية لن تهتم بإنجيل في شكله النهائي مأخوذ بعيداً عن سياقها التاريخي.
1(ج) يقدم لوقا البرهان على مدى دقته السائدة على السِفْر.
2(ج) لا يوجد أي شخصية تاريخية أخرى أثَّر في البشرية كما فعل يسوع. ووجهة نظر النقَّاد غير نزيهة ولا موضوعية.
3(ج) لقد فشلت المحاولات لإنكار تاريخية يسوع.
|