1(أ) مقدمة
هنالك مصطلح يحتاج إلى أن نشرح معناه، ألا وهو «ما وراء الطبيعة» أو «الميتافزيقا» طالما أن هذا هو لب الموضوع الذي نشرحه في هذا الفصل.
تقليدياً كان يشار إلى «ما فوق الطبيعة» في الدراسات الفلسفية بأنها هي دراسة الشيء كما هو في نفسه، وهذا يعنى: البحث عن الحقيقة كما هي في كينونتها. «ما وراء الطبيعة» تجيب على أسئلة مثل : ما هي الحقيقة؟ وما هو شكل هذه الحقيقة؟.
هناك تعبير آخر هو الـ «إبستمولوجيا» وهو علم يختص بتحديد كيفية الوصول إلى المعرفة. وقاموس «أكسفورد للتعبيرات الفلسفية» يعرف هذا العلم بأنه «نظرية المعرفة»، أو كيف يتسني لنا أن نتعرَّف على ما نعرفه. مثلا، هل نعلم ما إذا كانت ملكاتنا وحواسنا تخدعنا بالطريقة التي تخبرنا به عن الحقائق المحيطة بنا؟. لهذا يجب أن نركِّز الجهد على التعرف على الحقيقة ثم ندرج بعد ذلك نحو كيفية التعرف عليها.
2(أ) ما هي الحقيقة؟
الحقيقة هي كل ما يتوافق ويتطابق مع ما يشير إليه. وحقائق ما وراء الطبيعة هي تلك التي تتوافق مع الوقائع التي نتلمسها أو تعكس هذه الوقائع- وما هي مدي واقعيتها.
ونحن نعني بالتوافق أنه «التلائم مع شئ ما» وفي هذه الحالة، فإن الفكرة أو الجملة التي تختص بهذا الواقع يجب أن تتوافق مع هذا الواقع. ونعني بكلمة "الواقع" بأنه هو ما هو قائم أو متواجد أمامنا. وما إذا كانت هذه الوقائع متوافقة أم لا، فإننا سوف نناقشها في الفصل التالي المعنون «معرفية الحقيقة».
1(ب) الحقيقة تتوافق مع الوقائع (عكس الذاتية)
التوافق يشرح موقفاً فيه حقيقة واضحة، وهناك إيمان بوقوع هذه الحقيقة. والتوافق يعني أن هذا الإيمان حقيقي عندما يعكس بكل دقة هذه الحقيقة.
على العكس، نجد أنه في الذاتية تتحدد الحقيقة أو الوقائع داخلياً بواسطة شخص أو الذات.
1(ج) الحقيقة عند أرسطو
ميَّز أرسطو، الفيلسوف اليونانى، الفرق بين ما هو صواب وما هو خطأ، بالشكل الآتى: "لأن نقول بأن هذا الشئ هو كذلك بينما هو ليس كذلك، أو أن ننكر بأن هذا الشئ هو كذلك بينما هو في الواقع كذلك، يعتبر ذلك هو الخطأ. لكن عندما نقول عن الشئ بأنه كذلك وهو في الواقع كذلك، وأن نقول عن الشئ بأنه ليس كذلك وهو فعلا ليس كذلك، إذن هذا هو الصواب. لذلك فإن كل من يقول عن شئ ما بأنه كذلك أو ليس كذلك، فإنه بذلك يحدد ما هو صواب وما هو خطأ. (Aristotle, M, 4.7. 1011b 25- 30)
يؤكد أرسطو بأن الحقيقة تعتمد على التواجد الفعلى للشئ الذي تتعلق به فكرة أو جملة:
إذا تواجد رجل أمامنا، فإن الجملة التي تقول بأن هناك رجلاً متواجداً تعتبر صحيحة وبشكل تبادلى- طالما أن الجملة التي تؤكد تواجد الرجل صحيحة، إذن (في الحقيقة) هناك رجل. وبينما لا تعتبر هذه الجملة سبباً بأي شكل من الأشكال على تواجد الشئ، لذا يعتبر تواجد الشئ هو المسبب لصحة الجملة: أي أنه بسبب تواجد الشئ أو عدم تواجده هو الذي جعل من الجملة صواب أو خطأ. (Aristotle, C,12. 14b, 15- 22)
يقترح أرسطو بأن العبارة يمكن أن تتغير من صواب إلى خطأ فقط إذا تغير وضع الشئ الذي تصفه:
العبارات والاعتقادات... لا يحدث لها أي تغيير، ولكن لسبب تغيُّر أحوال الشئ فإنه يحدث أمر عكسي لها. فالعبارة التي ينطق بها الفرد تظل صحيحة؛ لكن ما يحدث من تغيير في الشئ هو الذي يجعل منها صواباً في آن وخطأ في آن آخر. وهكذا بالنسبة للاعتقادات... لأنه لا يطرأ أي شئ يمكن أن يغيِّر من العبارات والاعتقادات إلى ضدها، لكن السبب يعود إلى حدث آخر. فتواجد الشئ أو عدم تواجده هو الذي يحدد ما إذا كانت الجملة صحيحة أم خطأ، وليس بسبب قبولها هي ذاتها لما هو ضد. (Aristotle, C, 5.4 a 35- 4b 12)
2(ج) الحقيقة عند توما الأكوينى
يؤكد توما الأكويني أن الحقيقة تتحدد «بتوافق الفكر مع الشئ»؛ وما أن نحيط بهذا الفكر فإن الفطنة سوف تتعرف حينذاك على الحقيقة. هنا نجد أن توما الأكويني يعرِّف الحقيقة بأنها هي الترابط والتلاحم ما بين الفهم وما هو مطلوب فهمه:
كل أنواع المعرفة يتم الحصول عليها بنوع من الاستيعاب ما بين الساعي للمعرفة والشئ الذي يود معرفته. هو استيعاب يؤدي إلى خلْق المعرفة: لذلك فإن العين تدرك الألوان بسبب حدوث تأثير معين عليها فتميز الألوان. لذا بالطريقة المبدئية هو أن يلحق الشئ بفهم العقل ثم يتواءم معه. هذا التواؤم هو الذي نطلق عليه توافق الإدراك مع الشئ- من هذا التوافق يتحقق التصوُّر الواقعي للحقيقة. (Aquinas, OT, 1.1)
ويضيف الأكوينى، لأن معني الحقيقة يتكون من توافق الشئ مع الإدراك، وتوافق وتنوُّع الفروض المسبقة وليس تحديداتها، لذا فإن فكرة الحقيقة تظهر أولاً في منطقة الفهم والاستيعاب عندما يبدأ هذا الفهم في التقاط شئ يخصُّه ليس متوافراً في المجال الخارجى، لكن مع هذا هو متصل بالشئ، ومن المتوقع أن يتوافق معه. (Aquinas, OT, 1.3)
3(ج) الحقيقة عند الفلاسفة الحاليين
يحدد ج. مور الاعتقاد الصائب والخاطئ بأنه، عندما نقول بأن هذا الاعتقاد صائباً، فكأنك بذلك تقول إن هناك حقيقة كونية ترتبط بهذا الاعتقاد. وأن تقول إن هذا الاعتقاد خاطيء، فكأنك تقول أنه لا يوجد في الكون كله أي حقيقة مرتبطة بهذا الاعتقاد.
ويضيف مور قائلاً: عندما يكون الاعتقاد حقيقياً، فإنه بالتأكيد يرتبط مع حقيقة؛ وعندما يرتبط بحقيقة إذن هو صائب قطعا. ومشابهاً لذلك عندما يكون الاعتقاد خاطئاً، فإنه بالتأكيد لا يرتبط بأي حقيقة، ولأنه لا يرتبط بأي حقيقة، إذن هو اعتقاد خاطئ. (Moore, SMPP, 279)
يقرر مور أيضاً أن الحقيقة هي خاصية يمكن أن تلحق بأي اعتقاد مرتبط بالحقائق:
قلنا فيما سبق بأنه عندما نقرر صحة أمر ما فهذا يعني أنه مرتبط بحقيقة ما؛ ومن الواضح أن هذه الخاصية ربما ترتبط بها وكذلك ترتبط باعتقادات أخرى. فعلاً، إن اعتقاد البقال أن الطرد الذي طلبه هذا الصباح قد أُرسل له، ربما يكون هذا مرتبطاً بحقيقة ما (كأن يكون الطرد قد تم شحنه فعلاً). وهذا مماثل تماماً بالاعتقاد بأنه قد خرج ليتسلمه. الأمر حقيقي أيضاً بالنسبة للخاصية التي حددناها الآن في شأن خطأ الاعتقاد. وخاصية خطأ الاعتقاد تنحصر في عدم ارتباط الواقعة بأي حقائق (الطرد لم يرسل بعد). (Moore, SMPP, 277 -78)
برتراند راسل، الذي يؤمن باللاأدرية، يميز بين حقيقتين تختصان بالاعتقادات، الفعل الذي يصدق، يصدق بحق عندما تكون هناك تركيبات متواصلة لا تختص بالعقل والذهن، ولكن تتواجد أغراضها فقط. هذا التطابق يؤكد الحقيقة، وغيابها يحدث الخطأ طالما نأخذ في الحسبان في آن واحد لحقيقتين تقرران أن الاعتقاد (أ) يعتمد في وجوده على الذهن، والفكر (ب) لا يعتمد في وجوده على الذهن والفكر. (Russell, PP, 129)
ويجادل راسل ويقول بأن هناك عالم من الحقائق الموضوعية مستقلة تماماً عن الذهن: " الحقيقة الأولي المسلَّم بها والتي أود أن ألفت النظر إليها - وآمل أن تتفقوا معي بأن ما أدَّعيه هي مسلمات واضحة تماماً لدرجة أنه من المضحك أن أذكرها- هي أن العالم ملئ بالحقائق، وهي كما هي وبمقدار ما نختار التفكير فيه. وأن هناك أيضاً اعتقادات، لها صلة بالحقائق، ومن هذه الصلة نكتشف الصواب والخطأ. .(Rassell, LK, 182)
يشير الفيلسوف التوماستي آتين جيلسون إلى أنه لتحقيق التوافق ما بين طالب المعرفة والشئ المطلوب معرفته يجب أن يكون هناك فرق بين الاثنين:
تعريف الحق كتوافق أو تحقيق للمطلوب بين الشئ والذهن... هو تعبير بسيط كحقيقة. إن مشكلة الحقيقة لا يمكن أن يكون لها مفهوم إلا إذا تمَّ اعتبار الفكر واضحاً بالنسبة لأهدافه...
الحق ليس سوي الاتفاق ما بين المنطق الذي يحكم الأمور والواقع الذي يؤكده هذا الحكم. من جانب آخر، فإن الخطأ ليس سوي عدم الاتفاق.
ويستكمل جيلسون قوله: عندما أقول بأن بطرس موجود، وإذا كان حكم التواجد هذا حقيقياً، فإن هذا بسبب أن بطرس موجود فعلاً وحقاً، وعندما أقول أن بطرس هذا هو حيوان ناطق، إذا كان هذا حقيقي، فإن هذا يكون بسبب أن بطرس هو فعلاً كائن حي لديه موهبة المنطق والفكر والنطق. (Gilson, CPSTA, 231)
ويوضح ف. ب. رامسي الفرق ما بين الفكر والحقائق:
افترض أنني في هذه اللحظة بالذات أقرر أن قيصر قد اُغتيل: لذا فمن الطبيعي أن نميز في تلك الحقيقة فكري أنا من جانب، أو حالتي الذهنية الحالية، أو الكلمات والصور التي ترتسم في مخيلتي، والتي سوف نسميها العامل أو العوامل الذهنية، ومن جانب آخر إما قيصر نفسه، أو مقتل قيصر، أو قيصر ومقتله؛ وأفتراض أن قيصر قد قُتل، هذا سوف ندعوه العامل أو العوامل الموضوعية، وعندما أفترض أن الحقيقة التي أحكم عليها وهي أن قيصر قد قُتل، هي في الواقع تتكون من الإمساك ببعض العلاقة أو العلاقات بين هذه العوامل الذهنية والموضوعية. (Ramsey, FP as cited in Mellor, PP, 34)
يشرح كل من بيتر كريفت ورولاند تاسيلي أن الحقيقة تعني التوافق ما بين ما تعرفه أو تقوله وبينها هي ذاتها. فالحقيقة تعني الإخبار عنها كما هي في ذاتها. ثم يضيفون بقولهم:
كل النظريات التي تتكلم عن الحق، عندما يتمَّ التعبير عنها بكل وضوح وبساطة، تفترض تواجد الفكر العادي الشعوري للحقيقة المحفوظة في كلمات اللغة وتقاليد الاستخدام، وتحديداً نظرية التوافق. فكل نظرية تدَّعي بأنها حقيقية، هذا يعني، أنها تتطابق مع الواقع بينما الأخريات خاطئة، وهذا يعني، إن هذه قد فشلت في التوافق مع الواقع. (Kreeft, HCA, 364, 366)
يقول ج.ب مورلاند إن الحقيقة هي، صلة توافق وتطابق ما بين فكرة ما والعالم. إذا أمكن لفكرة ما أن تشرح العالم بكل دقة، إذن هي حقيقية. هي حينذاك تقف بالنسبة للعالم في علاقة ترابط. (Moreland, SSC, 81- 82)
ويؤمِّن على ذلك نورمان. ل. جيسلر:
الحقيقة هي تلك التي تتوافق وتتطابق مع ما تشير إليه (الفكرة التي تشير إليها الكلمة). حقيقة الواقع هي في التوافق الذي تكون عليها الأشياء فعلياً. الحقيقة هي التدليل عليها بكيانها ذاته. وهذا التوافق يستخدم وقائع مجردة وكذلك وقائع فعلية. هناك حقائق رياضية، وأيضاً هناك حقائق تختص بالأفكار والآراء. في كل الحالات هناك واقع تعبِّر عنه الحقيقة تماما. الخطأ حينذاك هو في كل ما لا يتوافق أو يتطابق، أي أنها تخبر عما ليس فيها، عندما يكون القصد من الجملة غير ملائم وليس في محله. حينئذ نقول إنها تفتقر للتوافق الجيد، هي مزيفة. (Geisler, BECA, 743)
ويذكر مورتيمر أدلر: كما أن صحة الحديث ينتج من التوافق ما بين ما يقوله شخص لآخر وما يفكر فيه الشخص أو يقوله، لذا فحقيقة الفكر تتكون من الاتفاق أو التواصل بين ما يفكر فيه الانسان أو ما يعتقد فيه أو يظنه وبين ما هو موجود على أرض الواقع أو ما لا يوجد في أرض الواقع مستقلاً عن أذهاننا وتفكيرنا.
ويشرح بيتر فان انواجن هذا الموضوع بقوله:
كل اعتقاد من اعتقاداتنا يمثل العالم كما هو بشكل ما. هذه الاعتقادات تكون صحيحة وصواباً إذا كان العالم فعلاً هكذا، وخاطئة إذا لم يكن هكذا، كما يعبِّر عنها ذلك الإنسان، وحيث ينتصب العالم حقاً طبقاً لاعتقاداتنا وقناعتنا! وإذا لم يحدث هكذا فإننا نعتبر بذلك مقصِّرين في أداء واجباتنا، وهذا خطأ منا وليس من العالم.
اعتقاداتنا وقناعتنا تنتسب هكذا للعالم كما تنتسب الخريطة لمنطقة معينة. يجب أن تنتسب الخريطة لمنطقة معينة، وإذا لم يحدث هذا، فذاك دليل على خطأ الخريطة وليس خطأ المنطقة. (Van Inwagen, M, 56)
ويلاحظ روبرت أودى، وهو شخصية قيادية في مجال علم الإبستمولوجي المعاصر (دراسة نظريات المعرفة):
عادة، الحالات والعمليات الداخلية التي تنصف اعتقاداتنا تربط هذه الاعتقادات بالحقائق الخارجية فيما يختص بصحة هذه الاعتقادات. انني أفكر في اقتراحات صحيحة، سواء كانت مصدَّقة أم لا، على طول خطوط شكل من أشكال نظرية الارتباط، التي مبحثها الأساسي هو الاقتراحات الحقيقية (أو الجمل التي تعبِّر عن الحقائق ) تتوافق أو تتطابق مع الواقع. ومن المعتاد أن يضاف إلى ذلك أنها حقيقية عند النظر إلى هذا التوافق. لذلك، فإن الحديث عن وجود حقل أخضر أمامي هو أمر حقيقي إذا كان هناك فعلاً حقل أخضر يقع أمامي، ويمكن أيضاً أن يقال إن هذا حقيقي بمقتضى تواجده أمامي. (Audi, ECITK, 239)
ويطور وليم ب. ألستون، أستاذ الفلسفة بجامعة سيراكيوز نظريته الخاصة في مجال تصوُّر الواقعي من الحقيقي وذلك بأسلوب مماثل: الجملة التي تبدأ بكلمة (أقترح، أعتقد) تعتبر صحيحة فقط إذا كان ما تقوله هذه الجملة تعبير عن الحالة بشكل واقعي. مثلاً، الجملة التي تقول إن الحديد يتمدد بالحرارة تعتبر جملة صحيحة إذا كان الحديد فعلاً يتمدد بالحرارة. هنا نجد أن محتوى الجملة -ما تظهره- تمدنا بكل شئ نحتاجه لنحدد ما إذا كانت الجملة صحيحة أم لا... ولا يوجد شئ آخر لضمان صحة الجملة، وليس هناك شيء أقل من ذلك يكفى. (Alston, RCT, 5-6)
4(ج) نتائج إنكار المنظور التوافقي
هناك نتائج عديدة يجب أن تتَّبع إذا كانت الحقيقة لا تتوافق مع الواقع.
فلسفياً، الكذب مستحيل بدون ربطه بالواقع. إذا كانت كلماتنا ليست في حاجة لأن تتوافق مع الحقائق، لذا لا يمكن أبداً أن تكون غير صحيحة. وبدون نوع من التوافق مع الحقيقة، فلن يتواجد الصواب والخطأ. لن يكون هناك فرق في تحديد مدي دقة نظام ما في شرح حقيقة موضوعة، لأنه لا يمكن لنا أن نلجأ إلى حقيقة ما كدليل. العبارات لا يمكن أن يحكم عليها إنها صحيحة أو خاطئة، لكن إلى أي حد هي مرتبطة أم لا. بالتأكيد يوجد فرق بين أفكارنا عن الأشياء والأشياء نفسها عندما نقول عن شئ ما إنه صائب أو خاطئ. (Geisler and Brooks, WSA, 263)
والأكثر من ذلك:
كل التوافقات والارتباطات سوف تتحطم. العبارات التي تدلُّك على شئ ما يجب أن تتوافق مع الحقائق التي تدَّعي أنها تمدنا بمعلومات. لكن إذا كانت هذه الحقائق لن تستخدم لتقييم العبارة، إذن أنا لم أخبرك بأي شيء، انني أهذي وعليك أن تمعن النظر وتقيس ما أقوله بالنسبة إلى نظامك الخاص في منطقة الأفكار. والآن هذا يعتبر خطراً للغاية إذا كنت عابراًَ للطريق بينما عبارتي تخبرك بأن هناك سيارة ضخمة قادمة. ما هو قدر الوقت اللازم لتتمعن ما إذا كانت العبارة تتوافق مع اعتقاداتك الراسخة أم لا؟ (Geisler and Brooks, WSA, 263)
2(ب) الحقيقة مطلقة (عكس النسبية)
النسبية هي النظرية التي تقول ليس هناك معيار موضوعي يمكن بها أن نحدد الحقيقة والصواب، وبذلك تختلف الحقائق طبقاً للأفراد والظروف. (Trueblood, PR, 348)
1(ج) تعارض الحقيقة المطلقة والنسبية
واقع تعارض الحقيقة المطلقة مع النسبية يمكن أن نلاحظها في الاعتبارين التاليين (1) الحقيقة ليست نسبية مع الزمان والمكان، (2) الحقيقة ليست نسبية مع الأشخاص.
1(د) الحقيقة غير نسبية مع الزمان والمكان
من يعتقد في صحة المنظور النسبي سوف يعلِّق على الجملة التي تقول القلم على يسار مجموعة الكتب بأنها جملة نسبية طالما أنها تعتمد على تحديد أي جهة من المكتب أنت تقف. المكان دائماً ما يكون نسبياً مع التصوُّر، كما يقولون. لكن الحقيقة قد ترتبط بالزمن أيضاً. في وقت ما، كان صحيحاً أن نقول إن ريجان هو رئيس الجمهورية. لكن من الصعب أن يقول أحد ذلك الآن. إنها جملة صحيحة في زمن ما، لكن ليس الآن. الحقيقة في هذه الجملة ملتزمة بشكل باتّ بالزمن الذي قيلت فيه. لكن هذا التصور يفهم في جمل تختص بالزمان والمكان:
يبدو أن تفسير من يعتقد بالنسبية غير صحيح، فبالنسبة للزمان والمكان، فإن تصوُّر المتكلم لهما يفهم من الجملة. مثلاً جملة ريجان رئيس للجمهورية عندما قيلت سنة 1986 كانت حقيقية ودائماً ما كانت كذلك، وليس في وقت من عام 1986 توقفت من أن تكون صحيحة. أما إذا استخدم شخص ما نفس الجملة سنة 1990، فإنه يتقدم بجملة مختلفة، لأن استخدام الزمن الحاضر قد خصم منه أربعة سنوات من سياق الجملة. والسياق الزمني والمكاني هو جزء لاصق وملتحم بسياق الجملة الذي يحدد هذا المعني بالتأكيد. مع ذلك، إذاً كانت جملة ريجان رئيس للولايات المتحدة (قيلت عام 1986) فإنها تكون صحيحة دائماً لكل شخص وفي كل مكان، إذاً هي حقيقة مطلقة. ونفس الشئ يقال عن القلم الموضوع فوق المكتب. تصوُّر المتكلم يفهم كجزء من سياق الجملة. إنها حقيقة مطلقة.
يشرح لنا مورتمر أدلر أكثر من ذلك، الجملة التي تقول (ربما يكون هذا الأمر صحيحاً في العصور الوسطى، لكن لم تعد صحيحة الآن) أو (هذا ربما يكون صالحًا للبدائيين من الناس، لكنه لا يناسبنا)، هي مبنية على نوعين من الالتباسات. أحياناً تتعثر الحقيقة عندما نفكر فيها، وهناك مجموعة غالبة من الناس في زمان ومكان معين يعتبرونها صحيحة، كما في المثال التالي:
جزء من الجنس البشري منذ عدة قرون سابقة كان يعتقد بصحة أن الأرض مسطحة. هذا الرأي قد تم إنكاره الآن. هذا لا يعني أن الحقيقة الموضوعية قد تغيرت - إن ما كان صحيحا في زمن ما لم يعد صحيحا الآن... ما تغَّير ليس هي الحقيقة في حد ذاتها، لكن هو دوام هذا الرأي الذي توقف من أن يكون منتشراً ومصدقاً.
وهناك نوع ثان من الارتباك ينتج عندما نهمل سياق الجملة زمانياً ومكانياً:
عدد سكان أي دولة يتغير من وقت لآخر، لكن الجملة التي تصف عدد سكان دولة ما في وقت معين سوف يظل صحيحاً في وقت لاحق عندما يتزايد عدد سكان هذه الدولة. فتواجد تاريخ جملة ما تسجل عدد سكان الولايات المتحدة في سنة معينة يحقق صحة هذه الجملة طالما أنها هي في الواقع سليمة. (Adler, SGI, 43)
ويضيف أدلر الاتجاه نحو التراجع عما قد يعتبره الكثيرون كادِّعاء يتشفع لهم، يمكن لنا أن نتحقق منه بتذكر أن هذا الادِّعاء لا يعوق التعرُّف على أن أحكامنا الخاصة بالصواب والخطأ التي تتغير من زمن لآخر ومن مكان لغيره. الشئ المتقلب والمتغير مع ظروف الوقت والمكان هي الآراء التي نتمسك بها فيما يختص بالصحيح والخاطئ، وليس ما هو صحيح وخاطيء بشكل موضوعي.
2(د) الحقيقة ليست نسبية للأفراد
حتى اللاأدري برتراند راسل يؤكد أن الحقيقة ليست نسبية بالنسبة للأذهان. سوف نلاحظ أن أذهاننا لا تصطنع الحقيقة أو الزيف، إنها تخلق الاعتقادات. لكن ما أن تنشأ هذه الاعتقادات، فإن العقل هو الذي يجعل منها الصائب والمخطئ، إلا في الحالة الخاصة وهي ما يختص بأمور مستقبلية وتحت سلطة الشخص وإمكاناته، مثل اللحاق بقطار. ما يجعل الاعتقاد صحيحاً هو حقيقة ما، هذه الحقيقة (إلا في أحوال استثنائية) لا تستغرق عقل المؤمن بها بأي شكل من الأشكال. الحالة الخاصة قد تكون جملة مثل «يستقر في داخلي حلم»، حيث يخلق الذهن اعتقاداً مبنياً على حقيقة التي هي بالتالي لها صلة بالذهن. مع ذلك، فإن المبدأ سوف يظل سارياً. هناك حقيقة واقعية وهناك اعتقاد- الاعتقاد يعتبر صحيحاً عندما يعكس بكل دقة الحقيقة.
ويشرح الفيلسوف جوزيف أوينز هذا بقوله: طالما أن الوجود غير متوافق مع عدم الوجود في نفس اللحظة وبنفس الظروف، فهو يظهر نفسه كأمر مطلق. بالتالى، وإلى هذا الحد، يمدنا بقياس مطلق للحقيقة. عندما يهطل المطر هنا، فإن هذا المطر لم يتآلف وجوديا مع عدم الهطول. هذا أمر مطلق وغير نسبي بالنسبة للملاحظ. من وجهة النظر هذه، تكون وجهة النظر هذه حقيقة الحكم التي لها صفة مطلقة، لأنها تقاس بتواجد مطلق. (Owens, CEI, 208)
يلاحظ أدلر بأن الجملة التي تقول: هذا صواب بالنسبة لك، لكن بالنسبة لي ليست صواب». هذه الجملة ليست خاطئة لكن كثيرا ما يساء تفسيرها. سوء التفسير هذا ناتج من الفشل في التمييز ما بين الصواب والزيف المرتبط باقتراح أو جملة، وكذلك الحكم الذي يطلقه الشخص بالنسبة للصواب والخطأ الذي في الجملة محل التساؤل. وربما نختلف في أحكامنا بما يختص بالصواب والخطأ، لكن هذا لا يؤثر على حقيقة المادة ذاتها. (Adler, SGI, 41)
ويضيف أدلر:
صواب أو خطا أي جملة ينشأ من مدي علاقتها بيقينية الحقائق، وليس من الأحكام التي يطلقها الناس. أستطيع أنا أن أؤكد جملة ما وأقول إنها صحيحة بينما هي في الواقع خاطئة. ويمكن لك أن تنكر جملة ما على أنها خاطئة بينما هي في حقيقتها صائبة. تأكيدي وإنكارك لن يغيِّر أبداً من صواب أو خطأ الجملة التي أخطأنا فيها نحن الاثنان. إنها تحتوي على صواب وخطأ بغضّ النظر عما نظنَّه، أو الآراء التي ننتهجها أو الأحكام التي نطلقها. (Adler, SGI, 41)
بذلك يميز أدلر ما بين ذاتية أحكامنا على الحق وموضوعية الحق ذاته. ويشرح ذلك: المظهر الذاتي للحق يقع في الدعوة التي يطلقها الفرد لخلق الصدق في أحكامه. والمظهر الموضوعي يقع في التوافق أو التواصل بين ما يؤمن به الشخص والواقع الذي بسببه يطلق حكما عندما يتمسك برأي معين أو اعتقاد خاص. الشكل الموضوعي هو المتقدم والأول. (Adler, SGI, 42)
ويقول أدلر: «هؤلاء الذين يفشلون في تلمُّس هذا التمييز سمحوا لأنفسهم أن يتراجعوا نحو الشك المتزايد وذلك برفضهم أن يعرفوا بأن الاختلافات الشخصية للآراء الخاصة بالصواب والخطأ يمكن أن تحلّ بجهود تهدف إلى تأكيد ما هو صحيح أو خاطيء بشكل موضوعي، متذكرين أن حقيقة أي جملة تقع في منطقة علاقتها بالواقع وليس بصلتها بحكم الشخص عليها».
إذا كان هناك حقل أخضر أمامي، فهذه ليست حالة ذهنية، إنها تبدو كأمر موضوعي مستقل عما يدور في ذهن أحد. واللون الأخضر سوف يتواجد بغض النظر عن إيماننا بذلك أم لا. في الحقيقة، ما إذا كان اعتقادي صحيحاً يتحدد إذا كان الحقل متواجدا فعلاً أم لا. حقيقة هذه الاعتقادات الخاصة بالملاحظة تعتمد على حقائق خارجية، وبالتالي هي لا تعتمد على ما نعتقد أو نؤمن به. (Audi, ECITK, 239)
إذن، الواقع الخارجي أو الحقائق الخارجية، هي ما هو مستقل عن فكر البشر. ويستنتج أودي من ذلك، إذا كانت الحقيقة غير معتمدة على الذهن والإدراك، بهذا هي تعتبر موضوعية، إذن نحن لدينا صيغة معينة من الأمر الواقع، وبشكل تقريبي لدينا المشهد الذي يدل على أن الأمور الخارجية تعمل كما هي مستقلة كما نألفها.
ويلاحظ وليم ب. ألستون أن صحة جملة الحديد يتمدد بالحرارة بأنها ليست نسبية لكل إنسان:
ليس مطلوباً من أي شخص أو مجموعة من البشر، مهما كانت محدودة، أن تعرف أن الحديد يتمدد بالحرارة أو هناك مبرراً أو منطقاً في تصديق ذلك. ليس ملزما أن يعمل الإعلام في هذا الحدث الذي قرره الله منذ قديم الأزل، ونحو ما يستلزمه ذلك من الاستفسار بأن الحديد يتمدد بالحرارة. هذه الحقيقة ليست ملزمة لأن يتمّ قبولها من أغلبية واضحة من أعضاء جمعية فلاسفة أمريكا. ليس هناك إلزام أن تصبح محملة بمجموعة من الدلائل التجريبية. طالما أن الحديد يتمدد بالحرارة، لذا فكل ما قلته صحيحاً بالرغم من الحالة المعرفية لهذا الرأي الذي ينتهجه أي فرد أو جماعة. (Alston, RCT, 5- 6)
يلاحظ الأستاذ بيتر فان انواجن أن: العالم يتواجد وحوله خصائص معينة مستقلة تماماً عن اعتقاداتنا وتأكيداتنا. من هذا الرأي يستنتج أن صحة أو خطأ اعتقاداتنا وتأكيداتنا هي لذلك موضوعية، بمفهوم أن الصواب والخطأ قد غطَّى على هذه الاعتقادات والتأكيدات بأغراضها، وبالأشياء التي تفصح عن ذاتها. (Van Inwagen, M, 56)
ويضيف فان انواجن بقوله:
وكيف يمكن لموضوعية اعتقاداتنا وتأكيداتنا أن تؤمن بالصواب فيها؟ ... إذا أكدت أن مدينة ألباني هي عاصمة ولاية نيويورك، فإن ما أكدته هو حق وصواب إذا كانت ألباني هي ليست سوى عاصمة الولاية، وخاطيء إذا لم تكن ألباني عاصمة ولاية نيويورك. إذا كان باركلي يؤمن أنه لا يوجد شئ مستقل عن الفكر، لذا فإن ما يؤمن به هو حقيقي، إذن وإذا فقط لم يتواجد شئ ما مستقل عن الذهن والفكر. إذا ردَّد شخصان، أنا وأنت، نفس الاعتقاد عن شئ -ربما يؤمن كلانا بأن ألباني هي عاصمة ولاية نيويورك- إذن فالصواب والخطأ ينتقل إلى اعتقاداتنا العادية بخصائص هذا الشئ المحدد. إذن الحقيقة هي واحدة، ولا يوجد شئ يماثل القول بأن الحقيقة هي صحيحة بالنسبة لي، لكنها ليست صحيحة بالنسبة لك. إذا استجاب صديقك المدعو ألفريد لكلام نطقت أنت به، ثم يقول لك هذا صائب بالنسبة لك، لكن ليس هو بالنسبة لى، فإن كلماته هذه ينظر إليها باعتبار أنها غير سليمة. هنا كأنه يقول هذا ما تظنه أنت، لكن ليس ما أظنه أنا. (Van Inwagen, M, 56- 57)
2(ج) طبيعة التدمير الذاتي للمنظور النسبي
يتقدم مايكل جوبين، أستاذ الفلسفة بجامعة كاليفورنيا - ديفيز، بحجة مماثلة ضد المنظور النسبي:
إما أن النسبية هي نظرية عبقرية حيث تتسم براهينها بالوضوح والتأكيد، أو العكس هو الصحيح. لكن أي محاولة لتناول النسبية بدون الاعتماد على الحقيقة المطلقة سوف يقود بلا شك إلى الفشل، لأنها سوف تقود إلى نكوص غير محدود. وبالطبع، أي تأكيد للنسبية بدون اعتمادها على الحقيقة (المطلقة) سوف تفشل. إذن هناك تأكد واضح بأن النسبية إما أن تفشل، أو أنها ليست مؤكدة، إنها تشبه الهتاف الحربي الفارغ. (Jubin, CM, 89)
النكوص غير المحدود الذي ذكره جوبي يحدث عندما يدَّعي المعتنق لنظرية النسبية بأنها نظرية صحيحة. هذه النظرية إما أنها صحيحة بشكل مطلق (لكل الناس، في كل زمن وكل مكان) أم هي نسبية. إذا كانت النظرية صحيحة إطلاقاً، إذن فالنسبية باطلة، لأنه على الأقل هناك حقيقة صحيحة تماماً وبشكل مطلق. لكن إذا كانت النظرية صحيحة نسبياً، فالسؤال الذي يجب أن يُطرح لمن هي صحيحة (بشكل نسبي)؟. لنفترض أنها صحيحة لشخص اسمه جون، إذن فهذه النسبية تعتبر مؤكدة وصحيحة بالنسبة لجون، لكن هذا الادِّعاء وهو أن نظرية النسبية صحيحة في نظر جون، هل هي صحيحة بشكل مطلق أم نسبي؟. إذا كانت بشكل مطلق، إذن فنظرية النسبية باطلة، لكن إذا كانت نسبية، إذن هي نسبة لمن؟ هل هي نسبية لجون؟ وهل هي نسبية لشخص آخر؟
فلنفترض أن ادِّعاء صحة هذه النظرية قائمة بالنسبة لشخص آخر ندعوه سوزى، لذا على المؤمن بنظرية النسبية أن يشرح لنا ما إذا كانت الحقيقة مطلقة أم نسبية، وإذا كانت الأخيرة، لمن إذن هي تعتبر صحيحة، والآن فإن المؤمن بهذه النظرية يسير في طريق مسدود. أخيراً سوف يُصرِّح هذا الشخص بأنه يوجد على الأقل حقيقة مطلقة، وفي كل حالة فالنسبية زائفة، وإلا فإنه لن يستطيع القول ما الذي تم تأكيده عندما ادَّعي أن النظرية النسبية حقيقية. لذا فإن النسبية إما إنها تحمل بداخلها ما ينجم عنه تدمير ذاتي لها (وبذلك هي زائفة) أو إنها غير مؤكدة.
يعلق على ذلك جيسلر بقوله: «الطريقة الوحيدة التي بها يتجنب المؤمن بالنظرية النسبية المعضلة المؤلمة التي تواجهها هي أن يعترف بأن هناك عدداً من الحقائق المطلقة. وكما أوضحنا فإن معظم النسبيين يؤمنون أن النسبية هي حقيقة مطلقة وأنه يجب على كل إنسان أن يكون نسبياً، وفي داخل هذا يستقر عامل الدمار والهلاك لنظرية النسبية. الرجل النسبي يقف على قمة حقيقة مطلقة ويود أن يحقق النسبية لكل شئ آخر. (Geisler, BECA, 754)
وعلى نفس النمط يعِّلق كل من كريفت وتاسيلي بقولهما:
الذاتية العالمية باطلة بطلاناً سريعاً، بنفس الطريقة التي حدثت للتشككية. إذا كانت الحقيقة ذاتية، أي إنها صحيحة بالنسبة لي وليست بالنسبة لك، لذا فهذه الحقيقة أيضاً، الحقيقة الذاتية ليست صائبة، لكنها فقط حقيقية بالنسبة لي، لذلك فهذا الذاتي لا يقول بأن الذاتية حقاً صحيحة وأن الموضوعية حقاً زائفة، أو أن الموضوعي على خطأ واضح. أنه لا يتحدى خصمه ولا يجادل ولا ينازل، إنه فقط يشاركه المشاعر. أشعر بشعور طيب وهذه لا تبطل مفعول جملتك التي تقول لكن أنا أشعر بالمرض. الذاتية ليست فلسفة، إنها لا تصل إلى مستوى أن تأخذ بتلابيب انتباهنا أو رفضها. ادِّعاؤها يشبه «أنا أهرش» وليس «أنا اعرف». (Kreeft, HCA, 372)
3(ج) مشاكل إضافية تواجه المنظور النسبي
إذا كانت النسبية صحيحة، إذن لامتلأ العالم بأمور متناقضة، لأنه إذا كان هناك أمر ما صحيحاً بالنسبة لي وخطأ بالنسبة لك، إذن سوف نواجه حالات متناقضة ومتنافرة. لأنه إذا قلتُ: «يوجد لبن في الثلاجة» وأنت تقول: «لا يوجد لبن في الثلاجة»- وكلانا صواب، وهنا سوف يوجد ولا يوجد لبن في الثلاجة في نفس الوقت، لكن هذا مستحيل. لذا إذا كانت الحقيقة نسبية، تكون الاستحالة أمر واقع. (Geisler, BECA, 745)
في مناقشة ما بين رجل مسيحي وآخر ملحد، يبدو أن المسيحي على حق عندما يقول إن الله موجود، والملحد أيضاً على حق عندما يقول إن الله ليس له وجود. لكن من المستحيل أن يوجد الله ولا يوجد في نفس الوقت وبنفس المفهوم.
ويجادل جيسلر بقوله: «إذا كانت الحقيقة نسبية، إذن لا يتعرض أحد للخطأ - حتى عندما يحدث هذا لهم. طالما أن هناك شيئاً صحيحاً بالنسبة لى، فإنني سوف أكون على حق حتى ولو كنت مخطئاً. المشكلة هي أنني لن أتعلم شيئاً أيضاً، لأن التعليم هو عملية انتقال- من اعتقاد خاطيء إلى اعتقاد صحيح- وهذا يعني الانتقال من اعتقاد خاطيء بشكل مطلق إلى اعتقاد صائب بشكل مطلق. (Geisler, BECA, 745)
4(ج) النسبية الأخلاقية
النسبية الأخلاقية تستخدم للحكم على أخلاقيات المجتمع. ويشرح لنا ج.ب. مورلاند في كتابه «تحب الله من كل قلبك» إن النسبية تتمسك بأنه يجب على كل فرد أن يتصرف طبقًا لنظام مجتمعه... وهذا يدعو إلى القول بان الادِّعاءات الأخلاقية ليست هي بكل بساطة صحيحة أو خاطئة في حد ذاتها. (Moreland, LYG, 150)
ويتقدم مورلاند بخمسة تحليلات نقدية عن النسبية الأخلاقية:
(1) من الصعوبة بمكان تحديد نوعية المجتمع، أو أن نحدد في حالة معينة ما هو المجتمع الملائم. إذا تواجد رجل من المجتمع (أ) وأجري علاقة جنسية مع امرأة من المجتمع (ب) في فندق يخص المجتمع (ج)، فما هو المجتمع الملائم الذي يحدد ما إذا كان هذا العمل الذي صنعه صائباً أم خطأ ؟
(2) هناك اعتراض آخر خاص بحقيقة أننا كثيراً ما نكون أعضاء في مجتمعات مختلفة في آن واحد ولها قيم اجتماعية مختلفة: أسرتنا، عائلتنا الكبري الممتدة، جيراننا، المدرسة، الكنيسة، الأندية الاجتماعية، مكان عملنا، مدينتنا، محافظتنا، وطننا والمجتمع العالمي. فما هو المجتمع الملائم لنا ؟ إذا ما كنت أنا عضواً في مجتمعين والواحد منهما يقبل نوع من التصرفات والآخر يرفضه، ما الذي يمكن أن أفعله في تلك الحالة ؟
(3) النسبية الأخلاقية تعاني من مشكلة تُعرف بأنها مشكلة المصلح. إذا كانت النسبية المعيارية صحيحة، لذا فإنه يستحيل منطقياً أن يكون لمجتمع ما مصلح فاضل مثل يسوع المسيح، غاندى، مارتن لوثر كنج ، لماذا ؟
المصلح هو عضو في مجتمع، يقف خارجاً عن معايير هذا المجتمع الذي ينطق بحاجته للإصلاح والتقويم في معاييره. مع ذلك، إذا كان أي فعل صحيح يتماشي مع معايير مجتمع معين، حينئذ يقال عن المصلح ذاته إنه إنسان غير أخلاقي لأن آراءه مخالفة تماما لمجتمعه. وسوف يكون المصلحون على خطأ دائم لأنهم يقفون باستمرار ضد معايير مجتمعاتهم. لكن أي وجهة نظر تدعو للقول بأن المصلحين الاجتماعيين غير مرغوب فيهم يعتبر عملاً معيباً، لأننا نعلم جميعاً أن المصلحين قد وجدوا فعلاً! لكن بشكل مغاير. فإن الأخلاق النسبية توحي بأنه ليس الثقافات (إذا كانت التقليدية في الحسبان) ولا الفردية (إذا كانت الذاتية في الحسبان ) يمكن أن تصلح من معاييرهم الأخلاقية.
(4) بعض الأعمال تعتبر خاطئة بغضّ النظر عن الاعتقادات الاجتماعية. والمدافعون عن هذا الاعتقاد يتخذون موقفاً من الخصوصية ويدَّعون بأن كل الناس يستطيعون أن يعلموا بأن هناك شيئاً ليس على ما يرام، مثل تعذيب الأطفال وكذلك السرقة والطمع وهكذا، بدون الحاجة إلى منهج لمعرفة ذلك وكيف يتصرفون ويعرفون هذه الأمور. لذلك، فإن فعل مثل تعذيب الأطفال يمكن أن يكون فعلاً خاطئاً ومعروفاً أنه عمل خاطئ حتى إذا قرر المجتمع أنه عمل صائب، وهناك عمل يمكن أن يكون صائباً ومعلوماً حتى إذا دمغه المجتمع بأنه عمل خاطئ. في الحقيقة، يمكن لعمل ما أن يكون صائباً أو خاطئاً حتى إذا لم يذكر المجتمع أي شئ عنه.
(5) إذا كانت النسبية الأخلاقية على صواب، إذن يصعب علينا أن نقرر كيف أن مجتمعاً ما يكون على حق عندما يلوم مجتمعاً آخر في حالات معينة. طبقاً للنسبية الأخلاقية، يجب أن ألتزم بمعايير مجتمعي وعلى الآخرين أن يلتزموا بمعايير مجتمعاتهم. إذا فعل سميث عملاً صائباً طبقًا لمعاييره، لكنه غير مناسب بالنسبة لمعاييري، كيف أصف تصرفه بأنه عمل خاطئ ؟
يمكن للإنسان أن يتجاوب مع هذا الاعتراض بالإشارة إلى المجتمع (أ) الذي ربما تحتوي معاييره الأخلاقية على المبدأ الذي يقرر أن على الإنسان أن ينتقد عملاً مثل، الجريمة، بغض النظر عن مكان حدوثها. لذا فإن أفراد المجتمع (أ) ينتقدون مثل تلك الأفعال التي قد تحدث في مجتمعات أخرى. لكن مثل هذه الأحكام تكشف أيضاً عدم التوازن في نظرية النسبية المعيارية. إذا أخذنا في الاعتبار هذه القاعدة وحقيقة أن النسبية المعيارية حقيقية وينتهجها أعضاء المجتمع (أ)، لذا سنجد أن أعضاء المجتمع (أ) سيبدون متمسكين بالرأي القائل بأن أعضاء المجتمع (ب) يجب أن يرتكبوا الجرائم (طالما أن معايير المجتمع (ب) تعتبر أن هذا عمل مشروع). وعليَّ أن أنتقد أعضاء المجتمع (ب) لأن معاييري تحتِّم عليَّ أن أفعل هذا. لذلك، أتهم أنا أعضاء المجتمع (ب) وأقول إن الأخلاق القويمة تنقصهم، وفي نفس الوقت أتمسك بأن فعلهم يجب أن يحدث ويتمّ. أكثر من ذلك، لماذا يهتم أعضاء المجتمع (ب) بما يفكر فيه أعضاء المجتمع (أ) ؟ ومع كلٍّ، إذا كانت المعايير النسبية صحيحة، فلا يوجد شئ جوهري صواب بالنسبة لوجهات نظر المجتمع (أ) الأخلاقية أو أي مجتمع آخر. لذا بسبب هذا الموضوع وللأسباب الأخرى، يجب رفض الأخلاق النسبية.
5(ج) لماذا يتم رفض الحقيقة المطلقة
يعلق على ذلك كل من كريفت وتاسيلى: ربما يكون المصدر الرئيسي للذاتية هذه الأيام، على الأقل في أمريكا، هي الرغبة في القبول، وأن نكون معها، على الموضة، مستعدين في نطاق المعرفة بدلاً من أن نكون بعيدين عنها ومنكرين لها. كل هذا عرفناه ونحن أطفال صغار- ثم نرتبك ونحسّ بمخاوف مطلقة ونحن في سنوات المراهقة- لكن نضع فوقها حجاباً كثيفاً من الدراسة والاقتناع عندما نصل إلى مرحلة البلوغ. (Kreeft, HCA, 381)
مصدر آخر للذاتية طبقا لرأي كريفت وتاسيلي هو الخوف من التغيير الراديكالي - هذا يعنى، الخوف من التحوُّل، أن نولد من جديد، وأن يكرِّس الفرد حياته كلها وإرادته لخدمة إرادة الله، الذاتية هنا تعتبر أكثر راحة، هي مثل الرحِم أو الحلم أو الخيالات النرجسية. (Kreeft, HCA, 381)
وطبقا لرأي سي. أس. لويس، فإن أحد مصادر السم الكامن في الذاتية. كما يطلق عليها، هو الإيمان بأن الإنسان هو نتاج عملية تطور عمياء:
بعد أن درس الإنسان بيئته، بدأ في دراسة ذاته، وحتى هذه النقطة، ظنَّ وافترض عقله أنه أحاط بكل شئ آخر. الآن، أصبح عقله هو الموضوع: وهذا يبدو كأننا قد أخرجنا عيوننا خارجاً لكي ننظر إليهما. وما أن تمَّت دراستها، بدا له عقله كأنه ظاهرة ثانوية تصاحب تفاعلات كيمائية أو كهربائية في قشرة الدماغ هي في ذاتها عبارة عن منتج ثانوي لعملية تطويرية عمياء. إذن عقله، وهو الملك الذي يهيمن على الأحداث التي تقع في العوالم الممكنة، يجب أن تخضع له، وتصبح ذاتية مجردة. ليس هناك سبب لافتراض أنها سوف تنتج الحقيقة. (Lewis, PS, as cited in hooper, CR, 72)
ويتأمل انواجن في الحقيقة المعقدة التي
ينكرها بعض الناس وهي موضوعية الحقيقة:
أكثر الأمور إثارة في موضوع الحقيقة الموضوعية هو أن
بعض الناس ينكرون وجودها. إن الإنسان يعجب من تواجد هؤلاء المنكرين
لحقيقة تواجد الحقيقة الموضوعية. على الأقل أنا أستطيع. في
الحقيقة، حدث لي هذا كثيراً. لبعض الناس، يسير التفسير هكذا. إنهم
معادون بكل عنف لكل شيء يمكن أن يقف مناوئاً لأحكامهم. الفكرة التي
يعارضونها ويعادونها هى، بالطبع، تواجد الله. لكن أيضاً نجدهم
معادين لفكرة تواجد كون موضوعياً لا يهتم بما يفكرون فيه، ويمكن له
أن يجعل من أكثر اعتقاداتهم المحببة مزيفة حتى بدون أخد آرائهم
(لكن هذه لا يمكن أن تكون هي القصة بأكملها، طالما تواجد هؤلاء
الذين ينكرون هذه الحقيقة الموضوعية ويؤمنون أيضاً بوجود الله. وما
يحفز هؤلاء الناس يعتبر شئ غامض من وجهة نظرى). فلنحذر القراء، يجب
أن يكون واضحاً أنني لن أتمسك بأقل درجة من التعاطف الخيالي مع
هؤلاء المعارضين لوجود الحقيقة الموضوعية. لذا فإنني لا أُعتبر
مرشداً مناسباً لآرائهم. ربما، وحقاً، لا أتفهَّم وجهات نظرهم.
إنني أفضِّل أن أؤمن أن لا أحد يصدِّق، ما يبدو على السطح، على
الأقل، حيث يبدو أن بعض الناس يؤمنون بذلك. (Van Inwagen, M, 59)
|