1(أ) مقدمة
في هذا الفصل سوف يتم تقديم إجابة على عديد من الاعتراضات الفلسفية على معرفية الحقيقة. وأكثر الاعتراضات الجديدة تظهر تحت عباءة ما بعد الحداثة، لكن لماذا هو من الضروري الرد على مقولات الفلاسفة الحاليين مثل ليوتار ودريدا الذين تنشر فلسفاتهم في الثقافات الحاضرة ؟ لأنه، كما قال سي. أس. لويس «أن تكون جاهلاً وبسيطاً الآن - وأن تكون غير قادر على مقابلة الأعداء على الأبواب - هذا يعني أننا نلقي بأسلحتنا وأن نخون إخوتنا غير المتعلمين الذين، تحت ظل الله، يفتقرون للدرع الدفاعي، وليس هناك سوانا للدفاع ضد الهجمات الثقافية الراديكالية. الفلسفة الجيدة يجب أن تتواجد، وإن كان هناك سبب، فليكن هو أن الفلسفة السيئة يجب مجابهتها». (Lewis, WG, 28)
بين أعوام 1960- 1990، كتب ستانلي جرينز في كتابه «مقدمة خاصة بموضوع ما بعد الحداثة» الآتي: «ما بعد الحداثة بزغت كظاهرة ثقافية حفَّزها بشكل كبير قدوم عصر المعلومات». ويقترح جرينز أنه إذا كان المصنع هو نموذج العصر الصناعي، والذي أنتج الحداثة، فإن الكمبيوتر هو رمز عصر المعلومات، والذي يتماشي مع انتشار أفكار ما بعد الحداثة. (McDowell & Hostetler, NT, 36- 37)
ما بعد الحداثة هو أمر معقد، وآرائها أحياناً ما تكون متناقضة. مع ذلك، فإن لورنس كاهون، يقتنص خلاصتها في كتابه «من الحداثة حتى إلى ما بعد الحداثة»، فيه يقول إنهم بكل بساطة يعتبرون بأن أفكار ما بعد الحداثة ترفض معظم الأساسات الفكرية الرئيسية للحضارة الغربية... على الأقل، فإن ما بعد الحداثة تنظر إلى عديد من المبادئ الهامة والأفكار المميزة للحضارة الغربية، وتعتبر أنها باطلة وغير مفهومة. وتمثل ما بعد الحداثة رفضاً للفلسفة التي صبغت الفكر الغربي منذ بدايته.
2(أ) السمات الرئيسية لما بعد الحداثة
1(ب) الحقيقة لا تتطابق مع الواقع
يتمسك رورتي بالآتي: بالنسبة للبراجماتي (المؤمن بنظرية ما بعد الحداثة)، فإن العبارات والكلمات الحقيقية ليست كذلك لأنها لا تتوافق مع الواقع، لذا ليس علينا أن نهتم بأي نوع من الواقع، إذا وجد، وأن جملة محددة تتطابق مع الواقع - ولسنا في حاجة للاهتمام بما يجعلها حقيقية. (Rorty, CP, 16)
هذا ونجد أن رورتي ينكر أن الحقيقة تتطابق مع الواقع:
البراجماتي يتشارك مع الإيجابيين وكذلك يتأثر بالأفكار الخاصة بفلسفة فرانسس بيكون وهوبس بأن المعرفة هي قوة ووسيلة للتماشى مع الواقع. لكنه يحمل فكرة بيكون إلى حدها الأقصي، مثل ما لم يحدث مع الإيجابيين. إنه يسقط فكرة الحق ومطابقتها للواقع كلية، ويقول إن العلوم الحديثة لا تمكِّننا من التماشى معها لأنها تتطابق، لكنها بكل بساطة تمكننا من المسايرة. دفاعه عن هذا الرأي ينحصر في أن جهود عدة مئات من السنوات قد فشلت في خلْق أساس متين يخص فكرة التطابق (سواء الأفكار مع الأشياء أو الكلمات مع الأشياء). (Rorty, CP, 17)
رورتي، وباتفاقه مع كون وديوي يقول: كل من كون وديوي يقترحان أن نهمل فكرة أن العلم يرحل تجاه نهايته والذي يدَّعي التطابق مع الواقع، بدلاً من ذلك يقولان ببساطة أن هناك شأناً خاصاً يعمل أفضل من غيره لغرض معين. (Rorty, cp, 193)
ويلخص جرينز ذلك، من جانبه: يطرح ريتشارد رورتي في مقابل التصور الكلاسيكي للحقيقة التي تقول إن العقل أو اللغة هي التي تعكس الطبيعة. الحقيقة تتكون ليس بالتطابق بتأكيد من الواقع الموضوعي وليس أيضاً بالتلازم الداخلي للتأكيدات ذاتها، هذا ما يقوله رورتي. إنه يجادل بأنه يجب علينا بكل بساطة أن نهمل البحث عن الحقيقة وأن نكتفي بالتفسير. (Grenz, PP, 6)
ويشرح وولتر ترويت أندرسون موقف مؤيدي ما بعد الحداثة عن الحقيقة: ونحن محاطون بعدد كبير من الحقائق، لا نستطيع سوى أن نسترجع تصورنا بخصوص الحقيقة ذاتها: اعتقاداتنا عن الاعتقاد. هناك العديد من الناس أصبحوا معتادين على الفكرة التي، كما يصيغها ريتشارد رورتي، تقول إن الحقيقة تُصنَع أكثر من أن توجد. (Anderson, TT, 8)
ويستنتج ريتشارد تارناس من هذا الموقف العقل ليس هو العاكس المستسلم للعالم الخارجي بنظامه الجوهري، لكنه نشط وخلاَّق في عملية التصور والمعرفة. ومن ثم فإن الواقع (الحقيقة) هو بصورة ما يتشكل بواسطة الذهن، ولا يتمَّ تصوره ببساطة بواسطته، وكثير من هذه التكوينات ممكنة، وليس بالضرورة لها سلطان... طالما أن طبيعة الحقيقة والواقع مبهمة بشكل راديكالي. (Tarnas, PWM, 396- 97)
وتعطينا بولين ماري روزينو مثالاً عملياً: بينما يكون دور الطبيب النفسي الحداثي هو أن يساعد الزبون لأن يرتب أفكاره، وينفذ خلف السطح، ويحقق تفهُّم الواقع بشكل دقيق، فإن الطبيب النفسي لفترة ما بعد الحداثة لن يكون غرضه هكذا. فليس هناك واقع مطلوب استكشافه. (Rosenau, PMSS, 89)
ويلقي جرينز ضوءاً ساطعاً على موقف مؤيدي ما بعد الحداثة:
مفكرو ما بعد الحداثة لم يعودوا قادرين على إيجاد هذا النموذج الواقعي العظيم (وهي أن الحقيقة تتطابق مع الواقع في النهاية) ويمكن تناولها. هم يرفضون التصور الأساسي الذي ينبني عليه - تحديداً، إننا نعيش في عالم يتكون من أشياء طبيعية يسهل التعرف عليها بصفاتها المتلازمة معها. هم يجادلون بأننا لن نواجه بكل بساطة عالم هو "هناك"، لكن هم يعملون على بناء العالم مستخدمين تصورات أحضرناها لهم. هم يناضلون ويقررون أننا لا نملك نقطة أفضلية تقف خلف تكويناتنا للعالم والتي منها نكتسب وجهة نظر خالصة الموضوعية لأي واقع يكون هناك. (Grenz, PP, 41)
ويلخص كل من ميدلتون وولش الأسباب التي تدعو ما بعد الحداثة أن ترفض تطابق نظرية الحق:
بالرغم أن الحداثة لم تكن أبداً حركة ثقافية، إلا أن المشروع الحضاري كان يعزَي إلى الافتراض الخاص بالمعرفة المستقلة بذاتها وتوصلت إلى الحقيقة بتكوين صلة ما بين الواقع المحدد بشكل موضوعي والأفكار والتأكيدات التي لطالب المعرفة. ولذهن مؤيد ما بعد الحداثة، مثل تلك الصلة تعتبر مستحيلة ، طالما ليس لدينا إمكانية الدخول إلى ما يسمى الواقع بعيدا عما يمثل الواقع في تصوراتنا، وكذلك اللغة، والمسيرة. يقول رورتي أنه طالما أننا لا نتلاقى مع الواقع إلا في حالات مختارة التوصيف، سوف نبتعد بذلك عن رفاهية أو الادِّعاء بالسذاجة، والدخول العاجل إلى العالم. لن نخرج أبداً من عباءة معارفنا لنتأكد من وقعها ضد الواقع الموضوعي. تداخلاتنا دائماً هي ما نتصورها بتكويناتها اللغوية والخيالية. (Middleton, FPS, as cited in Phillips, CAPW, 134)
2(ب) لا توجد (قصة كبرى) تصلح لتطبيقها على كل الواقع
في عام 1984 كتب الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار «حالة ما بعد الحداثة: تقرير عن المعرفة». وهو لم يساعد فقط على زيادة شعبية تعبير ما بعد الحداثة، لكنه أعطي تحديداً واضحاً يعتبر أحد الأعمدة الرئيسية لما بعد الحداثة.
ويشرح لنا أندرسون ذلك بقوله:
القصة الكبرى هي قصة ذات طابع أسطوري، هي قصة كبرى ذات معان بالغة، حيث تحتوي داخلها الفلسفة والبحوث والسياسة والفن، علاقات بعضهم ببعض، وفوق كل شئ- شكل موحد من الإحساس بالتوجُّه. وقد ذكر ليوتار كمثال قصة الإيمان المسيحي وإرادة الله العاملة في الأرض، وقصة الماركسية الخاصة بصراع الطبقات والثورة، وقصة إدراكات التنوير للتقدم المنطقي. ثم تقدم وحدَّد زمان ما بعد الحداثة، وقال عنه أنه وقت الشك في القصص الكبرى- كلها جميعاً.
لم يعني ليوتار بأن كل الناس قد توقفوا عن تصديق كل القصص، لكن هذه القصص لم تعد صالحة كما كانت سابقاً- وبسبب أنها أصبحت كثيرة، ونحن جميعاً نعرفها. (Anderson, TT, 4)
ويزيد ألبرت موهلر في هذا التحديد أكثر من ذلك بقوله: «لذلك، كل النظم الفلسفية ميتة، كل الحكايات الثقافية محدودة، كل ما تبقَّى هو قصص صغرى مصدَّقة بالنسبة لمجموعات مختلفة من البشر والثقافات. الادِّعاءات بوجود حقيقة عالمية - القصص الكبرى- أصبحت عدائية، أصبحت شمولية وتعسفية، لذا يجب مقاومتها.
وتشرح بولين ماري روزينو هذه الظاهرة بقولها:
ما بعد الحداثة تتحدى العالم، وكل وجهات النظر المحيطة، سواء كانت سياسية، دينية أو اجتماعية. إنها تقلل من شأن الماركسية، المسيحية، الفاشية، الستالينية، الرأسمالية، الديموقراطية الحرة، العدالة الاجتماعية، والعلوم الحديثة بنفس الأسلوب وتستبعدها جميعاً كأنها مركزية المعنى (وهو تعبير جديد تقدم به دريدا وهو عبارة عن صفة خاصة بنظم الأفكار التي تقول إنها شرعية بالإشارة إلى مسائل خارجية معترف بها عالمياً)، فهي قصص كبرى جماعية تتوقع كل الأسئلة وتمدنا بأجوبة جاهزة. كل هذه الأنظمة الفكرية تعتمد على افتراض أقل أو أكثر اعتمادية بالمقارنة بأعمال السحر والتنجيم أو طقوس الشعوب البدائية. وهدف ما بعد الحداثة ليس في أن تقوم بصياغة مجموعة بديلة من الافتراضات، لكن لكي تسجل استحالة تكوين مثل تلك الدعامات للمعرفة العامة. (Rosenau, PMSS, 6)
يقول جين فيث: في الماضي، عندما كان يظن أن إطاراً معيناً من الفكر غير كاف، كان يستبدل بإطار آخر. هدف ما بعد الحداثة هو أن تعمل بلا أي إطارات للمعرفة من مصطلحات ما بعد الحداثة: «القصة الكبرى» وهي قصة تحكي عن القصص، مجال واسع من التفسيرات النظرية مفادها هو الاستخدام العالمي؛ من ثم نقول، إنها هي وجهة نظر عالمية. ما بعد الحداثة هي وجهة نظر عالمية تنكر كل وجهات نظر العالم. (Veith, PT, 49)
ويعطينا شتينر كفالي تصوراً لما بعد الحداثة بقوله: عصر ما بعد الحداثة هو وقت لاختبارات لا تتوقف. هو زمن لا يستطيع فيه أي فكر تقليدي أن ُيتخذ بدون وعي ذاتي واستهزاء، لأن كل التقاليد يبدو أن بها بعض من القيمة. ("Themes of post modernityس as cited in Anderson, TT, 72)
ويصف لورنس كاهون تأثير ذلك على المجتمع: «بالنسبة لكثير من المفكرين غير المتدينين، كان الأمل في يوتوبيا اجتماعية تظهر في المستقبل فكرة الناس في أشد الحاجة إليها لتعطي معنى للحياة بعد موت الإله. فقدان هذا الأمل صدم عدداً كبيراً من هذه الجماعة مثل ما هدم فقدان الدين المجتمعات التقليدية: فقدان الأهداف التاريخية، يبدو فيها العالم كأنه أصبح بلا حركة ولا معنى مرة أخرى. ما بعد الحداثة وإلى حد ما تعتبر منتج من نتاج الماركسية، في هذا المفهوم هي خلق جيل يشعر باليتم». (Cahoon, MPM, 10)
3(ب) لن نستطيع أبداً في مجال علم المعرفة أن نتقابل مع الشئ ـ في ذاته
يقول جرينز: تستنتج ما بعد الحداثة أن كل المحاولات لشرح هدف، أو مركز موحد ـ عالم حقيقي ـ خلف تدفقات الخبرات هي محاولات تنتهي بالفشل؛ إنها في النهاية لن تنتج سوى روايات وإنشاءات يدبجها العقل الإنساني، وفي نزعهم التفسيرات الإنسانية من فكرة عالم موضوعي، فإن نقَّاد ما بعد الحداثة يمنعون عنَّا كل الأشياء ولا يتركون لنا سوى كلمات. (Grenz, pp, 83- 84)
ويؤكد كابوتو : «إن عملية الكشف تصبح عبارة عن عملية أخبار أو إشاعة. نصبح مفقودين في كلمات ونفشل في الدخول في علاقات بالأشياء ذاتها». (Caputo, RH, 75)
ويختتم هنري بقوله: «النظريات الفلسفية التعددية بأن هذه الحقيقة الموضوعية لا يمكن الولوج إليها علماً بأنها لا تقع داخل الواقع الخارجي أو النصوص، لكن عند المفسرين أنفسهم». (Henry, PNS, as cited in Dockery, CP, 41)
ويزيد ريتشارد تارناس في ذلك الأمر ويقول: من المعلوم أن المعارف الإنسانية محددة بعدد ضخم من العوامل، وهذه المعايير الموضوعية، والأشياء ـ في ذاتها، ليست قابلة للاقتحام؛ وأن قيمة كل الحقائق والافتراضات يجب أن تكون بصفة دائمة عرضة للفحص. والبحث الدقيق عن الحق يصبح محجماً لكي يحتوي على الغموض والجماعية، وحصيلته ستكون بالضرورة هي المعارف التي هي في واقعها نسبية ومعيبة أكثر من أن تكون مطلقة أو مؤكدة. (Cited in Tarnas, PWM, 395- 97)
وتوضح بولين ماري روزينو موقف ما بعد الحداثة:
النصّ نفسه، وليس الحقائق، هو ما يهتم به رجل ما بعد الحداثة. هو يرضى عندما يستنتج أن كل ما يجري لا يمكن التعبير عنه بدقة. على أي حال، إن هذا لا يهم كثيراً لأنه لا يوجد أي معنى لأي نصّ، أو لأي حدث سياسي، اجتماعي أو اقتصادي، لأن تواجد عدد لا يحصي من التفسيرات لسيناريو واحد ممكن جداً. (Rosenau, PM & SS, 41)
وتستمر في شرحها بالقول، اللغة تنتج وتعيد إنتاج عالمها الخاص بدون الإشارة إلى الواقع... من المستحيل أن تقول شيئاً محدداً، لأن اللغة نظام اصطلاحي خالص ولا يمكن أن تؤكد الحقيقة. (Rosenau, PM &SS, 79)
ويصرّ كابوتو على تواجد حقيقة موضوعية قابلة للتفسير: «الهدف من كل هذا... هو الإذعان لمراوغة الشئ نفسه، ليستسلم للعبها، وأن لا يطرح نيرها (مهما كان يعني هذا)، هذه هي الحقيقة الباردة، حقيقة أنه لا توجد حقيقة، ولا ذكر لاسم سيد يمسك بزمام كل الأمور». (Caputo, RH, 192)
ويلخص جرينز:
يختتم دريدا في النهاية بقوله إن اللغة ليست إلا إنها ذاتية- الاستشهاد. هي علامة تقود إلى علامة أخرى. لذلك، فاللغة هي سلسلة من العلامات تدلّ وتشير نحو علامات أخرى، وكل علامة بها تصبح إشارة إلى علامة أخرى. ولأن الموقف النسجي حيث تستقر العلامة تتغير باستمرار، فإن معناها لن يتحدد أبداً. لذلك فإن دريدا يؤكد أن المعنى لن يكون أبداً ساكناً، ولا يعطي مفهوماً ثابتاً ودائماً. بدلاً من ذلك ، المعنى يتغير بمرور الزمن ومع تغير المحتوى. لهذا السبب، يجب علينا دائما أن نتجنب ميلنا لكي ننسب المعنى للأشياء. (Grenz, PP, 144)
4(ب) لا يوجد أساس مطلق ترتكز عليه المعرفة أو الحقيقة
يدَّعي هنري بأن، أحد المقدمات المعرفية التي يتشارك فيها كل مؤيدي ما بعد الحداثة هو رفضهم للبنائية، والإيمان بأن المعرفة تتكون من مجموعات من الاعتقادات التي تستقر بكل تأكيد على مجموعات أخرى من الاعتقادات. وأن الجميع يعتمد على اعتقادات بنائية غير مرتجعة أو مباديء أولية ذاتية البرهان . (Henry, PNS, as cited in Dockery, cp, 42)
وينكر رورتي بعض الأساسات الجوهرية: أول ما أصف به البراجماتية (أو ما بعد الحداثة) هي أنها ببساطة ضد الأمور الجوهرية المستخدمة في الأفكار مثل الحق، المعرفة، اللغة، الأخلاقيات، وما شابه ذلك من موضوعات ذات التنظير الفلسفي.
ويؤكد كفالي: لا توجد طريقة مثالية لقياس ومقارنة المعرف باستخدام مقارنات لغوية مختلفة؛ إنها غير قابلة للقياس. عالم ما بعد الحداثة يتميز بتغير مستمر للتصورات، بدون الوقوع تحت إطارات عامة مرجعية، بل بالأكثر كآفاق متغيرة عديدة. (Anderson, TT,21)
ويشرح ريتشارد تارناس :«إن نموذج ما بعد الحداثة يعود إلى طبيعتها التي تتمثل في قيامها بتدمير وقلب كل النماذج، لأنه في صميمها هو الوعي بالواقع كفعل حاضر متعدد، محلي وزمني وبدون أساس ظاهر». (Tarnas, PWM, 401)
ويختتم فيث بقوله: «ما بعد الحداثة... هي ضد البنائية. إنها تهدف لتدمير هذه الأساسيات الموضوعية وأن تستبدلها بلا شيء». (Veith, PT, 48)
ويلخص ميلارد أريكسون ذلك: المعرفة ليست أكيدة. والبنائية، هي فكرة أن المعارف يمكن أن تنصبّ على نوع معين من صروح المبادئ الأولية المسلم بها، وهذه الفكرة يجب أن تترك وتهمل. (Erickson, PF, 18)
5(ب) الموضوعية وهم
يشرح أريكسون موقف ما بعد الحداثة تجاه موضوعية: «إن موضوعية المعرفة فكرة مرفوضة، وسواء كان طالب المعرفة قد تكيف بخصوصية موقفه أو أن النظريات المستخدمة تستخدم بطريقة هجومية، فإن المعرفة ليست وسيلة حيادية للاستكشاف». (Erickson, PF, 18)
ويقول روي واجنر:
لذلك فإن الوعي للثقافة يمنح عالم الإنسانيات مؤهلات هامة لتنفيذ أغراضه ووجهات نظره الدراسية كعالم متخصص. ادِّعاء المفكر المنطقي الكلاسيكي بالموضوعية المطلقة يجب أن يهمل في صالح موضوعية نسبية مبنية على خصائص ثقافة الشخص الذاتية... الموضوعية المطلقة سوف تستلزم أن لا يكون لعالم الإنسانيات أي نوع من الأساسات، وبالتالي ليس لديه أي نوع من الثقافة.
وبكلمات أخرى، فكرة الثقافة، تضع الباحث في موقف من التساوي مع ما يبحثه: كل ينتمي إلى ثقافة معينة لأن كل ثقافة يمكن أن تفهم كإظهار معين، أو كمثال لظاهرة الإنسان، لأنه لم تكتشف أبداً وسيلة عصماء للعمل على تدريج الثقافات المختلفة وترتيبها بأشكالها المختلفة، ومن ثم فإننا يجب أن نفترض أن كل ثقافة مساوية لأي واحدة أخرى. هذا الافتراض يدَّعى النسبية الثقافية. (Anderson, TT, 54- 55)
ويستعين الفيلسوف الفرنسي جين بودريلار بهذا التصور في تعبيره: لم تعد قطعة الأرض سابقة للخريطة. من الآن فصاعداً، فإن الخريطة هي التي سوف تسبق قطعة الأرض. وبكلمات أخرى، نحن كبشر غير قادرين أن نتلاحم مع العالم بموضوعية وأن نصفه كما هو، حيث لدينا متحيزات داخلية تحدد لنا كيف نرى الواقع. إن الموضوعية ليست سوى خيال ووهم.
ويقول بول فييرابند: «بالنسبة لهؤلاء الذين ينظرون للمادة الغنية التي يمدنا بها التاريخ، ولمن لا ينوون إفقارها بهدف بعث السرور إلى حواسهم المتدنية، يكون ميلهم للأمان الثقافي بشكل وضوح، دقة، موضوعية. حقيقة سوف يكون واضحاً إلى أن يتواجد مبدأ واحد يمكن الدفاع عنه تحت كل الظروف وفي كل مراحل التطور الإنساني. إنه المبدأ؛ أن كل شيء يتغير. ("Anything Goesس, Feyerabend, as cited in Anderson, TT, 199)
وينير لنا قاموس أكسفورد للفلسفة هذا الاِّدعاء الخاص بما بعد الحداثة: «الموضوعية تتكشف كستار للقوة أو النفوذ في الأكاديمية، وكثيراً ما تظهر كأنها آخر قلعة للمزايا الممنوحة للرجل الأبيض».
ويجادل مايكل فوسولت ضد الموضوعية:
الحقيقة ليست خارجة عن القوة، أو تفتقر إلى القوة. خلافا عن الأسطورة التي يحتاج تاريخها وعملها إلى دراسة أعمق. الحقيقة ليست كجائزة للأرواح الحرة، أو وليدة للعزلة طويلة الأمد، وليست هي ميزة لهؤلاء الذين نجحوا في تحرير أنفسهم. الحقيقة هي شيء من هذا العالم: إنها فقط تنتج بفضل العديد من أشكال الإكراه والضغط. هي تحفز تأثيرات مستمرة من مظاهر القوة. كل مجتمع له نظامه في ممارسة الحق. وله سياسته العامة في الحق. هذا يعني شكل من أشكال الخطاب الذي تقبله ويعمل كشيء حقيقي؛ هي الميكانيكية أو اللحظات التي تمكن الفرد من الفصل بين العبارات الصحيحة والخاطئة، الوسائل التي يتقدس بها كل فرد، الطرق اللازمة للحصول على الحقيقة؛ الحالة التي يتهم بها هؤلاء الذين يقولون كل ما يعتبر حقيقياً. ("Truth and Powerس, Foucault, as cited in Cahoone, MPM, 379)
6(ب) الحقيقة تصّورية
يختتم ألبرت موهلر بقوله، يشرح لنا جاك دريدا هذا الاتجاه والحركة في تعبيرات مثل «موت المؤلف»، «موت النصّ». هذا يعني أنه مصنوع وليس موجود- وهو ما يحدث مع القارئ أثناء القراءة. النصّ يجب أن يعاد بناؤه لكي يتم التخلُّص من المؤلف ويجعل النصّ حياً ككلمة حرة. (Mohler زMinistry is Stranger Than it Used To Beس, Southern Seminary, 6)
ويسجل رورتي: إن «البراجماتي»، يستمر في تأكيده بأنه لا يوجد اختلاف براجماتي، لا اختلاف يمكن أن يصنع اختلافاً، بين «إنه يعمل لأنه حقيقي» و«إنه حقيقي لأنه يعمل»- أكثر من «إنه بار لأن الله يحبه» و«الله يحبه لأنه بار». (Rorty, CP, 29)
رورتي يطبق البراجماتية على كل من دعاوي الحقيقة الوصفية والتصويرية: «هناك صفة أخري للبراجماتية ربما تسير بهذا الشكل: لا يوجد اختلاف في نظرية المعرفة بين حقيقة ما يجب أن يكون وحقيقة الشيء في ذاته، ولا يوجد اختلاف ميتافيزيقي بين الحقائق والقيم، وليس هناك اختلاف ميثولوچي ما بين الأخلاق والعلم». (Rorty, CP. 163)
ويستنتج رورتي من ذلك: في النهاية، فإن البراجماتي يخبرنا، أن المهم هو إخلاصنا للناس الآخرين المتماسكين سوياً ضد الظلام، وليس الأمل لأن تصبح كل الأمور صحيحة وسليمة. (Rorty, CP. 166)
ويوضِّح لنا رورتي باتفاقه مع جيمس وديوي أن الحقيقة التصورية والوصفية لا أساس لهما، وكنتيجة لذلك، يرى أن كليهما تصوري: «لقد طلب جيمس وديوي منا أن نحرر حضارتنا الجديدة بأن نتخلى عن فكرة تثبيت ثقافتنا وحياتنا الأخلاقية، وسياساتنا واعتقاداتنا الدينية على أسس فلسفية». (Rorty, CP, 161)
ويلاحظ جرينز: إن البراجماتيين أمثال رورتي لا ينظرون إلى المعرفة كأن الهدف منها هو الحصول على الحق السليم. إنهم يبحثون بدلاً من ذلك للحصول على عادات عملية تتماشى مع الحقيقة. (Grenz, PP, 153)
ويلخص جرينز: إن وجهة النظر العالمية لثقافة ما بعد الحداثة تعمل على أساس تفهُّم مجتمعي للحقيقة. إنها تؤكد أن أي شيء نقبله كحقيقة وحتى الطريقة التي ننظر بها للحقيقة تعتمد على المجتمع الذي نتشارك فيه. أكثر من ذلك، وأكثر راديكالية، فإن نظرة ما بعد الحداثة تؤكد أن هذا يمتد نسبياً أبعد من تصوراتنا للحقيقة حتى جوهرها هيكلها: لا توجد حقيقة مطلقة؛ وبالأكثر، الحقيقة نسبية مع المجتمع الذي نتشارك فيه. (Grenz, PP, 8)
ويوضِّح كل من ميدلتون وولش الآتي: واحد من الخصائص المميزة لثقافة ما بعد الحداثة هو وعينا المتنامي... بتعددية نظرتنا للحياة الإنسانية والمعرفة. (Middleton, FPS, as cited in Phillips, CAPW, 134)
ويقول جرينز بأن آراء ما بعد الحداثة فيما يختص بالحقيقة بأنها ذاتية فقط: «هايدجر... يرفض الافتراضات العامة من أن الحقيقة تتكون من التطابق والتوافق ما بين تعبيراتنا والواقع كامل التكوين الذي يتواجد خارجنا... الحقيقة ليست مطلقة ومستقلة بذاتها». ويجادل في ذلك ويقول إنها تقاربية. الفكرة السائدة غير مقبولة لأنه بكل بساطة يعتبر تصوُّر عالم خارجي بأنه غير حسي في ذاته. ليس لدينا سوى عالم الخبرات الذي نعيش فيه كمشاركين. تبعاً لذلك، يمكن أن نتكلم عن الحقيقة فقط كما لو كنا نحن فيها ولسنا نبحث عنها خارج عن خبراتنا. (Grenz, PP, 106)
ويشير جرينز أيضاً إلى أن فلاسفة ما بعد الحداثة استخدموا النظريات الأدبية للتفكيكيين للعالم كله، ولأن كل نص سوف يقرأه كل قارئ، كما قالوا، لذا فالواقع سوف يقرأ بشكل مختلف بالنسبة لكل نفس واعية تتلامس معه. هذا يعني أنه لا يوجد معنى واحد في العالم، وليس هناك مركز متسامي للواقع ككل. (Grenz, PP, 6)
وينير لنا كريج الطريق بملحق عاجل لفكرة ما بعد الحداثة فيما يختص بالحقيقة التصورية بقوله:
الاختلافات الدينية تحتاج منا أن ندرك... أن الدعاوي التنافسية لجميع الأديان تتماثل في حقيقتها، أو ليست أقل صدقاً، وأنها تتشابه في التأثير والمفعول مع ما تدعو إليه المسيحية.
لكن لماذا تتضمن الاختلافات الدينية هذه الدرجة من الوضوح؟ إن مؤيد ما بعد الحداثة لا يدافع فقط عن التواضع الأخلاقي. هو لا يقول فقط إنه لا يمكن لنا أن نعرف بكل تأكيد ما هي العقيدة الدينية الصحيحة، ولذلك يجب أن نكون متفتحين، ولكنه بالأحرى يحرص على أن يؤكد أنه لا يوجد أي من الأفكار الدينية هي صحيحة بشكل موضوعي ومطلق، لذلك ولا واحدة منها يمكن أن تكون الديانة الحقيقية بالمقارنة بالديانات الأخرى. (Craig, PIS, as cited in Phillips, CAPW, 77)
يخلُص جرينز إلى «إن إنكار حقيقة وجود عالم موحَّد كموضوع تصورنا، هو جوهر ما بعد الحداثة. ومؤيدو هذه النظرية يرفضون إمكانية تأسيس وجهة نظر صحيحة وحيدة، وهم ببساطة لديهم رضا عن التحدث بوجهات نظر كثيرة، وعلى امتداد العالم كله».
«بإحلال وجهات النظر العالمية الخاصة بالحداثة واستبدالها بوجهات النظر المتزايدة والمتعددة الثقافات والاتجاهات، فإن عصر ما بعد الحداثة قد أحدث تأثيراً بأن استبدل التفسير في مكان المعرفة». (Grenz, PP, 40)
3 (أ) الرد على ما بعد الحداثة
1(ب) ما بعد الحداثة تهدم ذاتها
يسرد لنا دينيس ماكّالوم القصة التالية:
صديق لي أخبرني بأنه عندما زار اللاهوتي والمؤلف رافي زاكارياس جامعة أوهايو ليتحدث فيها، أخذه المضيفون ليزور مركز وكسنر للفنون. هذا المركز هو قلعة من تصميم هندسة ما بعد الحداثة. حيث يوجد بها سلالم تقود إلى لا مكان، أعمدة تنزل هابطة لكنها لا تتلامس مع الأرضية، أعمدة وممرات تجري في كل مكان، وشكل مجنون من الكمرات البارزة تغطي معظم السطج الخارجي. ومماثلاً لكل إنشاءات ما بعد الحداثة فإنها تخالف كل قانون للمنطق العاقل وكل قانون عقلي.
نظر زاكارياس إلى المبنى وهز رأسه، وبابتسامة قال: ما يشغل بالي حقاً هو: هل هم استخدموا نفس التقنيات عندما أرسوا الأساس؟.
إن النقطة التي أشار إليها جيدة للغاية، فإعلان الاستقلالية عن الواقع عند بناء صرح كبير هو أمر، ولكن عندما نتلامس مع العالم الواقعي يصير هناك أمر آخر مختلف تماماً. (McCallum, زThe Real issueس,1)
ويذكر ماكّالوم مظهرين مدمرين في ما بعد الحداثة:
1- من وجهة نظر ما بعد الحداثة، يمكن أن ينظر إلى فلسفة ما بعد الحداثة نفسها باعتبارها تنظيماً اجتماعياً متعسفاً مماثلة في ذلك كل الأيدلوجيات الأخرى. لذلك، لسنا مضطرين لقبول هذه النظرية. يمكن لنا بكل بساطة أن ننساها ونتجاهلها كأي عمل إبداعي آخر.
2- إذا أرادوا لما بعد الحداثة أن تظهر كأنها حقيقية، وإنها وجهة نظر عالمية لها مزايا موضوعية، لذا فإن رسالة ما بعد الحداثة (رفض كل الحقائق الموضوعية) هي على خطأ. إنها سوف تنتهي وهي تعلم بأنه يوجد فعلاً بعض الحقائق الموضوعية- تحديداً هي أن ما بعد الحداثة نظرية موضوعية صائبة!
فــي كلتـا الحالتين، فإن رفـض ما بعـد الحداثــة للموضوعية المعقولة هي فكرة ذاتية- التدمير. إنهـا إمــا أن تنكـر شرعية كيانها، أو تفـترض اعتمــادية الـعـقــل ومــوضوعية الحقيقة وبالتالي تنقـض نفسـها.(McCallum, DT, 53)
ويتقدم كريج بهذا الهجوم على ما بعد الحداثة:
عندما نؤكد أن الحقيقة هي أنه لا توجد حقيقة فهذا أمر افتراضي أيضاً. لأنه إذا كانت هذه الجملة صحيحة، فإنها ليست حقيقية، طالما أنه لا يوجد ما يسمى بالحقيقة، لذا ما يسمى بالتفكيكية لا يمكن فصلها عن التفكك ذاته. أكثر من ذلك، ليس هناك من سبب يدعونا لانتهاج تصورات ما بعد الحداثة أكثر من أي تيار فكري آخر مثل الرأسمالية الغربية، أو المغالاة في الذكورية، أو العنصرية. وهكذا طالما أن ما بعد الحداثة ليس لديها حقائق أكثر من هذه التصورات. وهي محجوز عليها في أغلال ذاتية- التدمير، مما اضطر بعض مؤيديها من أن يتبعوا نفس ما لجأ إليه البوذيون: إنكار أن ما بعد الحداثة هي وجهة نظر معينة أو موقف كلي. لكن مرة أخرى، لماذا إذن استمروا في تأليف الكتب والحديث عنها؟.
من الواضح أنهم يتصنعون ادِّعاءات فكرية- وإذا لم يكن الأمر هكذا، إذن هم ليس لديهم ما يقولونه أو لديهم أي اعتراض على استخدامنا للقوانين الكلاسيكية للمنطق. (Craig, PIS, as cited in Phillips, CAPW, 82)
ثم يتهم كريج مؤيدي ما بعد الحداثة بأنهم قاموا بقفزة غير منطقية: كيف يكون مجرد تواجد وجهات نظر دينية لا تتوافق مع المسيحية توضِّح أن الدعاوي المسيحية المحددة ليست صحيحة؟ منطقياً، تواجد دعاوي متعددة غير متوافقة تدعو للظن بأن كلها لا يمكن أن تكون صحيحة بشكل (موضوعي)، لكنه من الواضح أنه أمر خادع أن نستنتج أن ولا واحد منها صحيح بشكل (موضوعي).
ويرفض كارسون المعضلة التي أنشأتها ما بعد الحداثة: إن التفكيكين ربما يصرِّون على «إما المعرفة المطلقة أو النسبية الكاملة». إما أن نعرف شيئاً ما وأنه حقيقي ومطلق، أو أن ما تسمي ب(المعرفة) ليست سوى آراء، لذا هي نسبية. بهذا جعلوا الميزان الفلسفي جامداً ومغالياً. ما بعد الحداثة تنقصها الأرض الصلبة والدعامات لرفض الاحتمالات الأخرى. هي معضلة مزيفة.
ويشير ساير إلى الآتي: «حتى من يؤمنون بالنسبية يمكن أن نلفت نظرهم بأن الحقيقة ضرورية- حتى بالنسبة لموضوع النسبية ذاتها. في الحقيقة، مسألة الحقيقة لا يمكن أبداً تجنبها. فهل اتباع ما بعد الحداثة وادِّعاءاتها الفلسفية هي في الحقيقة صحيحة؟».
ويكشف ساير أيضا الستار عن تهافت آخر لما بعد الحداثة: «بالرغم أن مؤيدي ما بعد الحداثة يجب عليهم أن يقولوا بأنهم لم يتقابلوا بقصة لم يعجبوا بها، إلا أنه من الواضح أنهم تعرضوا لذلك. فإن البنائيين المسيحيين والقصص الإنجيلية كثيراً ما كانت ترفض بسبب خصوصيتها. (Sire, Bfcin, as cited in Phillips, CAPW, 120)
ويوضح جين فيث نقطة هامة في هلامية ما بعد الحداثة: لأن لا نؤمن في الحقيقة هو بالطبع أمر يناقض ذاته. لأن نؤمن يعني هذا أن نصدق بأن هناك شيء صحيحاً؛ ولأن نقول «إن الحقيقة أنه لا يوجد شيء حقيقي» هو تعبير فارغ، ونفس جملة «لا توجد حقيقة مطلقة»، هي حقيقة مطلقة. (Veith, PT, 16)
ويبين دايوجنس ألين المشكلة الأساسية في ما بعد الحداثة:
مع ذلك، كان رفض مفهوم القصة الكبرى لعصر الاستنارة، ليس سبباً كافياً لرفض إمكانية تواجد قصة كبرى في الحقيقة، فإن ما بعد الحداثة هي في حد ذاتها قصة كبرى. فهي لها مظهر يطبَّق عالمياً. هي تظن أنها قد أرست مظهرها بعيداً عن شكلها المميز. لكن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تتمسك بها في نظرتها للحياة الإنسانية والكون هو أن تنسى أن المحددات التي حبست الآخرين في وقت ومكان ينطبق عليها أيضاً. لأن تكون مؤيداً لما بعد الحداثة يستلزم من الفرد أن لا يجعل يده اليسري تعلم ما تفعله يده اليمنى. (Allen, زChristianity and the creed of postmodernismس, Christian Scholars Review, 124)
ويقص علينا أريكسون تلك القصة التي توضح استحالة العيش بمبادئ ما بعد الحداثة بشكل متوازن:
أعتقد أنه علينا أن ندفع اتباع التفكيكية حتى نهاية وجهات نظرهم، لكي نعيش بشكل متوازن، مؤمنين بأن لا أحد يمكنه أن يعيش بوجهات نظرهم هذه...
عندما نفعل ذاك، سوف نجد بعض المقاومة والإحباط، لكنه سوف يبزغ إلى السطح استحالة العيش بشكل متوازن مع وجهة نظر ما بعد الحداثة راديكالية التوجه. وهذا ظهر بشكل دراماتيكي في حالة دريدا . فقد كتب جون سيرل إجابة عن مقال بقلم دريدا، وقد تحدى ونقد العديد من تصوراته.... وفي إجابته ذات الـ 93 صفحة، اعترض دريدا بقوله إن خطاب سيرل إليه كان غير منصف وإنه في العديد من النقاط قد أساء الفهم ولم يقدِّر موقفه. بل أنه أكد في نقطة معينة أن ما كان يقصده، يجب أن يكون واضحاً ومفهوماً لسيرل. ولكنني أعتبر هذا إجابة مناقضة للتفكيكية ولا تنتمي لفكر ما بعد الحداثة عندما نجد أن إجابة أحدهم تتمسك بأن معنى نصّ معين ليس في نية مؤلفها. (Erickson, PF, 156)
وتوضح لنا بولين ماري روزينو هذه السبعة اعتراضات ضد ما بعد الحداثة:
أولاً، ما بعد الحداثة تحاول هدم أي ادِّعاء خاص ببناء التفكير النظري. لكن أي موقف ضد التنظير هو في ذاته موقف تنظيري. إذا كانت النظرية سخيفة، إذاً كل محاولة لإلحاق الصواب والحق مع النظرية يجب أن تنكر وتحجب، إذن فإن تلك المقدمات يجب أن تنطبق أيضاً على كل شكل من أعمال التنظير، شاملاً تلك المحاولات لتفريغ محتوى أي نوع آخر من النظريات، بينما تعمل على تهريب نظريتك من الباب الخلفي لكي تتجنب تطبيق أفكارك نفسها عليها.
ثانياً، بالرغم من التأكيد على أهمية عدم المنطقية والتعبير عن شكوك عظيمة بشأن وسائل التنوير الإعلامية الخاصة بالتمعُّن، المنطق، التعقُّل إلا أن مشايعي ما بعد الحداثة يستخدمون هذه الأدوات في تحليلاتهم. ونلاحظ مثلاً أن التفكيكية، منطقية للغاية، ويستخدم فيها العقل والمنطق، والعمليات التحليلية الدقيقة.
ثالثاً، مؤيدو ما بعد الحداثة لا يحكمون على شيء ولا يقدِّرون التفسيرات على اعتبار أنها جيدة أو سيئة ، لكن أليست اقتراحاتهم بأن العلم الاجتماعي يركِّز على المستثني ، المهمل، المهمَّش والصامت ، لا توضح بناء ذا قيمة داخلية، فهي تفضل ضمنيا بعض الجماعات أو تصورات معينة على الأخرى ؟ وأليس هذا لا يتناسب مع رفضهم لأن يفضِّلوا شيئاً على الآخر ؟... إذا افترض هؤلاء المؤيدون، بالتحديد، أن وجهة نظرهم أسمى وأعلى بالمقارنة بأفكار عصر الاستنارة، أليسوا هم بذلك يحكمون على تفسيراتهم بأنها أفضل من غيرها؟
رابعاً، اتباع ما بعد الحداثة يؤكدون على اعادة التفسير للنصوص، لكن كثيراً من تنويعاتها وخصوصاً تلك التي ابتكرها دريدا، تعامل النصّ في الفراغ ولا تعمل على تفسيره.
خامساً، كثير من مؤيدي ما بعد الحداثة يرفضون الموازين الحديثة التي تساعد النظرية، لكن إذا كان هؤلاء يقدمون نتائج من أي نوع، مثل عدم تحديدية الأسئلة التي يودّ علم الاجتماع الحديث أن يجيب عليها، لا يستطيعون أن يناقشوا بأنه لا يوجد ميزان صالح للحكم. هم أنفسهم يلزمهم أن يكون لديهم ميزان، ربما يكون ضمني، يستطيعون به أن يصنعوا مثل تلك الأفكار. وإذا وِجد هذا الميزان، إذن فمشايعو ما بعد الحداثة يؤمنون بأنه يوجد بعض اليقينية في العالم.
سادساً، بالرغم من التحذير من عدم توازن الحضارة الحالية هم يرفضون أن يتمسكوا بأشكال من التوازن لأنفسهم. هم ينكرون بكل وضوح أنهم بحاجة لأن يقوموا بجهد لكي يتفادوا التناقض الذاتي بداخلهم، إنهم بالكاد يتظاهرون بالاعتدال.
سابعاً، مؤيدو ما بعد الحداثة يـقولـون بـأن كـل مـا يكتبونه أو يقولونه هو في حـد ذاتـه ليـس إلا جهـداً وحكايات محلية، متصلاً فقط بتكـويـناته. لكن قليلاً منهم تنحَّى كلية عن دعـاوي الحـق عندمـا كانوا يكتبون. وهـذا أيضا هو اتجاه يدمـر نفسـه. (Rosenau, PMSS, 176- 77)
2(ب) يمكن أن نعرف الشئ - في ذاته
يكتب جيلسون، هناك معرفة في العالم، وهذه هي حقيقة الموضوع. والسؤال الثاني المثار هو عن الظروف التي تكون فيها المعرفة ممكنة على وجه العموم. (Gilson, CPSTA, 224)
ويتمسك جيلسون بقوله: ليس علينا أن نصف الكون ثم نسأل أنفسنا ما هي نوعية معلوماتنا بحيث يكون هذا الكون مقبولاً. يجب أن نصنع العكس. وطالما وجدت المعارف، يجب أن نستفسر كيف تعمل الأشياء لكي نشرح كيف تعرِّفنا عليها. (Gilson, CPSTA, 225)
ما بعد الحداثة أظهرت النظرة الحديثة وهي أن التوافق التمثيلي لا يمكن الحصول عليه. ما بعد الحداثة هي حداثة ظهرت لكي تزرع. مع ذلك، فإن نظرة توافق وتطابق الحقيقة التي ظهرت قبلاً في هذا العمل ليست تمثيلية. يذكرنا هنري بأن ما بعد الحداثة لم ترفض تماما ميتافيزيقا العصور الوسطى: فهم يقولون أن «البنائية الفاشلة للحداثة تركت وعودها الخاصة بالتنوير غير محققة. لكن الإرث الوسطي كله تقريباً لم يفسر كما أراد نقَّادها الحديثو العهد أن نصدق». (Henry, PNS, as cited in Dockery, cp, 50)
«دعنا نبدأ بحقيقة أن معرفة شئ ما هو تواجد هذا الشئ في الفكر» (Gilson, CPSTA, 226)
إذا كان من المطلوب أن نكون مخلصين لمبادئنا السابق ذكرها، يجب أن نقول بأن كيان الشئ ذاته مبني على وجود الموضوع المعرَّف. (Gilson, CPSTA, 226)
ويستمر جيلسون في توضيحه بالقول إن المعلومات تحدث عندما يتحد كل من طالب المعرفة والمعرَّف.
وهكذا فإن التركيب ينتج انشغال، ولذلك، يحدث مزج بين كيانين يسقطان سوياً في لحظة اتحادهما. الحس يختلف عن المحسوس، والعقل يختلف عن المعقول؛ لكن الحس ليس مختلفاً عن الشئ المحسوس ولا الإدراك عن الفرض المطلوب أن نعرفه. لذلك فإنه صحيح حرفياً أن الحس، يتوحد مع المحسوس وهو يجري إحساساً. وأن الإدراك أثناء عمله المعرفي يتوحد مع المدرك وهو يعمل لنعرفه. (Gilson, CPSTA, 226)
ويضيف جيلسون ملحقاً للفكرة السابقة: يمكن أن نقدِّر نتيجة إضافية لتلك للحقيقة وهي الرسالة التوماسية التي تذكر أن كل عمل معرفي يفترض أن الموضوع المعروف يصبح حاضراً في الموضوع المعرَّف. (Gilson, CPSTA, 226)
3(ب) رفض ما بعد الحداثة للتوافق التمثيلي فشل في إظهار أن الحقيقة لا تتطابق مع الواقع
يوضح جيلسون بأنه من الخطأ أن نعتبر المعرفة كأنها علم للأفكار بدلا من أن تكون علم للأشياء:
إذا وضحت النماذج من خلال أشكالها، فإن معرفتنا سوف تركز على النماذج وليس على الأشياء ذاتها، وهذا غير معقول لسببين: أولاً، لأنه في تلك الحالة سوف تتوقف كل معارفنا على التعامل مع الوقائع الخارجية، وسوف تمتد فقط إلى ما يمثلها في ضمائرنا. هنا سوف نقع في الخطأ الذي وقع فيه أفلاطون - الذي كان يعتبر المعرفة كأنها علم للأفكار بدلاً من أن تكون علماً خاصاً بالأشياء. ثانياً، لأنه لا يكون هناك أي ميزان أو معيار للتأكد. (Gilson, CPSTA, 228)
مجادلات جيلسون هي من الواقع، حيث معرفة الأشياء تأخذ مجراها بذاتية- البرهان تجاه نظرية المعرفة التي تهتم بخبرة الإنسان: مع ذلك، طالما أنه يوجد فعلاً معارف معروضة تتعامل مع الأشياء، وليس مع مجرد الآراء، فإن موضوعات المعرفة يجب أن تكون أشياء في ذاتها وليست صور شخصية منفصلة عن الأشياء... في عملية التعرف لا يوجد كائن وسيط بين الأفكار وأغراضها. (Gilson, CPSTA, 228)
ويعلق جيلسون على ذلك، في الحقيقة والواقع، عندما يواجه الإدراك الإنساني شجرة بلوط أمامه، فإن تصوره ينساق إلى شجرة، وعندما يتواجه بأشكال سقراط أو أفلاطون، فإن تصوره ينصب على شكل رجل. الإدراك يدرك اللب بكل وضوح، كما يتصور أن السمع يؤدي إلى الأصوات وأن النظر يؤدي إلى تمييز الألوان. (Gilson, CPSTA, 230)
يصر جيلسون بأن الحقيقة هي تطابق وتأكيد للشئ في الواقع: لكي يكون التطـابق ما بين التـصور للهـدف يصبح معلوماً ويأخذ شكل الحقيـقة في الـوعـي، ويجـب على الإدراكات أن تضيـف شيئاً من ذاتها للحقيقة الخارجية التي قد أدركتها فـوراً. مثل هـذه الإضافة تبدأ حين لا تكون راضياً أن تفهم شيئاً مـا، إنـنا نطلـق حكماً عليها ونقـول: هذا رجـل، هـذه شجـرة حتى يظهر لنا الإدراك شيئاً جديداً ـ هو تأكيد متواجد فيه وليس في الأشياء. لمثل هذا التأكيد يمكن أن نتساءل ما إذا كان يتواصل ويتطابق مع الـواقـع أم لا. (Gilson, CPSTA, 231)
وعندما كان جيلسون يناقش نقد الكانط أشار إلى نقطة هامة. تحديداً هي أن التواجد الشكلي للأشياء نفسها في عقل طالب المعرفة تحلّ المعضلة المعرفة، ولا يمكن لمؤيدي ما بعد الحداثة أن يجيبوا عليها:
في محاولتنا الأولى لبحث هذا النظام، فإنه من المستحسن أن نضع انتقاداً للنقاد لكي نجد ما إذا كانت المحاولات النموذجية الأساسية لا تضع حملاً مزيفاً على مشكلة المعارف، هذا إذا افترضنا أولاً أن الأشياء لنفسها وأن الإدراك لذاته، وإذا افترضنا أيضاً أنه من المستحيل أن نوع التفكير ينفذ إلى الأشياء، وأن المثالية صحيحة. إنه أمر مناقض أن نسأل ما إذا كانت أفكارنا تتوافق مع الأشياء، إذا لم تكن الأشياء معروفة لنا إلا من خلال أفكارنا.
مع ذلك،
تصبح ممكنة بعكس أطروحة المثاليين، لأن نعلم أذا ما كانت أفكارنا تتوافق مع واقع الأشياء أم لا في النظام الذي فيه يكون تواجد الأشياء فينا هو نفس أحوال تصور الأفكار. (Gilson, CPSTA, 234)
ويقول ماكّالوم:
مؤيدو ما بعد الحداثة يتمسكون بأنه طالما لا نستطيع أن نقف خارج أنفسنا لكي نقارن الصور الذهنية بالواقع الخارجي، نحن مضطرون لرفض فكرة أنه يمكن لنا أن نعرف الواقع بطريقة موضوعية. وعلى العكس، سوف تكون إجابتنا، أن أحكامنا عن العالم، بينما هي ليست معصومة من الخطأ، قابلة للتعديل بالاستفسار اللاحق. ولأنه ينقصنا اليقين المطلق عن العالم الخارجي لا يعني هذا أنه لا يمكن لنا أن نعرف أي شيء يحدث بعيداً عنا. ليس علينا أن نغوص في شكوك ما بعد الحداثة.
نجاح التكنولوجيا العلمية هي مشهد قوي يوضِّح أن تصوراتنا بشأن العالم هي دقيقة نسبيًا. عدد لا يحصى من الإنجازات تشهد على اعتمادية المعرفة الإنسانية. (MacCallum DT, 52)
4(ب) الخبرة العملية توضح أننا قادرون على استخراج المعاني التي يقصدها المؤلف من خلال النصّ
يوضح هاو الخطأ الأول لمؤيدي ما بعد الحداثة في الميتافيزيقا. وكنتيجة لذلك، هم طوَّروا تفسيراً يدمر ذاته.
خلافاً لادِّعاءات دريدا... أنه من الممكن أن نبيِّن وجود إشارات متسامية التي بواسطتها يتفهم العقل الواقع بعيداً عن أي إشارات لغوية. هي إشارات تشكيلية، أو كلمة عقلية كما هو معروف في نظرية المعرفة الواقعية.
مرة أخرى، يبدو أن هجر أساسيات الميتافيزيقا الواقعية يقود إلى نتائج تؤدي إلى التدمير- الذاتي... يؤكد دريدا: «سوف أحاول أن أعرض لماذا أن محتوى معين لا يمكن تعيينه بشكل مطلق، أو لماذا لا يمكن تحديده أبداً بدرجة تأكيد شامل». بالطبع فإن محتوى دريدا نفسه معيَّن؛ ودريدا يعتمد على حقيقة أن معانيه اللغوية سوف تكون محددة في معانيها، وهذا، لأن المحتوى لا يمكن تحديده بشكل مطلق، المعنى اللغوي هو غير قابل للتحديد. (Howe, TTM, 99)
ويوضح لنا ماكولم: إن عدم دقة الفلسفة اللغوية لما بعد الحداثة، وأنه يجب أن نعتمد على خبرات الاتصال اليومية العملية للإنسان:
إن مؤيدي ما بعد الحداثة ينسون نقطة أخرى هامة في نظرتهم نحو اللغة. وطبقاً لنظرتهم، ولأن اللغة لها خصائصها اللغوية ومعانيها الخاصة، فإنه من المستحيل أن نتواصل بشكل ذو معنى أو نترجم بكل دقة من لغة إلى أخرى. وإن فعلنا ذلك، فإن هذا سوف يقهر محتوى المعاني الثقافية المتفردة التي تميز لغة عن أخرى.
لكن المتحدثون بعدة لغات، بالرغم من الاختلافات، أحياناً لدي الممتازين منهم، يستطيعون أن يعبروا عن التصورات بكل معانيها بشكل تقريبي. الواقع ليس مقسماً بين خطوط اللغة، كما ادعى بذلك كثير من مؤيدي ما بعد الحداثة.
الثقافات كثيراً ما تقترب إلى الواقع بشكل مختلف. المؤرخون من ثقافة مختلفة أحياناً ما يكتبون بفجاجة تصورات مختلفة لنفس الحدث. والمعتقدون بألوهية الكون والروحانيون ينظرون إلى الطبيعة بطريقة راديكالية مختلفة عما ينظر بها العلماء الطبيعيون.
لكن هذا ليس معناه أن تكون غير قادر على إدراك ما الذي يقصده الآخر. ما بعد الحداثة تركِّز على أهداب مسألة اللغة- الخمسة بالمئة التي يصعب ترجمتها- ويهملون الخمسة والتسعين بالمئة الواضحة تماماً.
بينما يصعب توصيل الحقائق أو وجهات النظر الخاصة بالواقع بين الثقافات المختلفة، مع ذلك ليس لدينا أي سبب أن نصدق بأن هذا مستحيل. وحقيقة أننا على وعي بالاختلافات التي تبرهن على أنه يمكن لنا أن نكتشف ونتفهم اختلافاتنا إذا كنا حريصين. وبسبب قدراتنا على التواصل، يمكن لنا أن يفهم أحدنا الآخر وأن نفكر لماذا ننظر إلى الأشياء بشكل مختلف. مثل هذا التواصل يفتح الأبواب إلى تبادل خلاَّق وتقييم للأفكار وحتى التصورات التي نهتم بها مثل الروحانيات والأخلاقيات. (McCallum, DT, 55)
ويجادل كارسون في شأن فلسفة:
لم أقرأ أبداً بحثاً لأحد التفكيكيين الذي سوف يسر إذا أساء أحد القراء تفسير ما كتبه: كذلك في الواقع العملي يربط هؤلاء الناس ضمنياً ما يكتبونه بنياتهم الخاصة.
إذن، ليس هناك أي نقطة، في العالم الواقعي، لكل هذه العقبات الخاصة بالتواصل ما بين شخص وآخر ومن ثقافة لأخرى، وما زلنا نتوقع من الناس أن يقولوا كثيراً أو قليلاً عما يقصدونه (وإذا لم يحدث، فنحن سوف نزجرهم عليها). نحن نتوقع من البالغين أن يتفهموا ما يقوله الآخرين ، أن يعرضونه بشكل جيد. الفهم لن يكون بلا شك قاطعاً وكاملاً حتى نهايته، لكن هذا لا يعني أن البديل الوحيد هو أن نفصل النصّ عن المتكلم، ثم نسلم المعنى للقارئ أو المستمع. المعرفة الحقيقية لمعنى نصّ معين وحتى لأفكار المؤلف الذي كتب هو أمر ممكن، حتى إذا لم تكن المعلومات كاملة أو مستغرقة. هذه هي الطريقة التي تجري عليها الأشياء في العالم الواقعي، وهذا من شأنه أن يدعو بأن أي نظرية تتعامل مع هذه العلاقات، هي في حاجة إلى فحص جديد. (Carson, GG, 103)
5(ب) الحقيقة موضوعية أكثر من كونها تصوّرية
الإنسان لا يستطيع أن يعمل أو أن يعيش طويلاً إذا تصرف دائماً وكـأن الحقيقة تصوّرية أكثر منها موضوعية. إنه سوف يسحب شيكات لأن حسابه البنكي به رصيد بالنسبة له. ويشرب السم الذي هو ليمونادة بالنسبة له، يسقط في داخل الثلج الهش الذي هو كثيف من وجهة نظره، أو أن يصدمه أتوبيس لا يتحرك بالنسبة له. إن من يريد أن يعمل بكفاءة ويعيش في العالم، يكون من المهم بالنسبة له أن تتطابق الحقيقة الموضوعية مع الواقع.
يؤكد ماكّالوم خطورة النظرة التصوّرية للحقيقة:
هذا يقود إلى نتائج مزعجة، مثلاً، منذ عهد قريب،
تم تعيين قائمة من تسعة عشر خبيراً من قِبَل الجمعيات
الفيدرالية للصحة، وخصص رصيداً معيناً لاستخدامه في إنتاج وحصد
- وتدمير- الأجنة للأبحاث العلمية. وتفسير هؤلاء الخبراء هو أن
إضفاء الطابع الشخصي على الإنسان هو بناء اجتماعي. وبكلمات
أخرى، فإن الكائنات البشرية هذه لم تولد بل استحدثت. وطبقاً
لآرائهم، فإن الإجماع الثقافي (ليس محبوباً على طول الخط، لكنه
ليس كذلك بالنسبة للعلماء) يحدد الواقع ويجعل من الإنسان
إنساناً.
مع ذلك، ما الذي يحدث، عندما تقرر الثقافة أن جنساً
معيناً أو سلالة ما ليست إنسانية، وأن هؤلاء غير البشريين نهدف إلى
التخُّلص منهم؟ . إذا كان الواقع مرتبط بالثقافة، فإنها سوف تكون
عملية استعمارية وعلى ثقافة أخرى أن تتدخل. بدون معايير مطلقة، ليس
هناك أساس للحكم على النازي أو الماسوني أكثر من واجب تحديد الحياة
البشرية. (McCallum, DT, 41)
يتمسك ساير بأن المعلومات الإنسانية غير
متكاملة وأنه ليس هناك حالة كافية. لنفترض أنه يمكن لنا أن نحصل
على معرفة موضوعية: أؤمن أنه من الممكن أن نقبض على بعض الحقيقة.
ربما نصنع أخطاء، وربما نغير من آرائنا، لكن اعتقاداتنا لا يجب أن
توكل إلى حالة الفكر الخاص. الشيء الوحيد الذي يستحق الإيمان به هو
الحقيقة. عندما نؤمن نفهم نحن الحقيقة، وأنه يجب أن نتمسك بها بنية
خالصة. (Sire, BFCIN, as cited in Phillips, CAPW, 119)
ويذكر كارسون نقطة مشابهة: «ربما نوافق فوراً
أن المعرفة الإنسانية جزئية، ليس لذلك هي بالضرورة غير صحية
موضوعياً». (Carson, GG,349).
ويلخص أوجستين: «أكثر من ذلك، فإن المؤمنين،
يثقون فيما تنقله إليهم حواسهم الجسدية التي تخدم الذكاء. وإذا
كانوا أحياناً يخدعون، فهم على الأقل أحسن حالاً أكثر من هؤلاء
الذين يتمسكون بأن الحواس لا يمكن أبداً الوثوق بها». (Augustine,
CG, 466)
ويناضل كريج في قوله: إنه بالرغم من إمكانية
تواجد بعض الحقيقة في معظم الأديان، فإن الأديان جميعاً ليست
متساوية في الصحة والحق: ربما يكون المسيحيون متفتحين إلى تلمس
عناصر الحق الموجود في الأديان غير المسيحية، إلا أن ضمائرهم لا
يجب أن تكون منفتحة على كل دعوة دينية أخرى، طالما أنهم ليسو
مضطرين إلى التمسك بالنسبية الدينية، ويرفضون أشكالها العالمية».
(Craig, PIS, as cited in Phillips, CAPW, 97)
|