1(أ) تكرار الروايات
1(ب) مقدمة
هناك قصص محددة في أسفار موسى الخمسة يقال إنها تكررت مرتين، وهناك قصص أخرى يقال إن بها تفاصيل متعارضة (مثال: الخليقة تك 1-2:4أ، كهنوتي(P)، 2:4ب-25، يهوي (J). الطوفان تك 6:1-8، 7:1-5، 7- 10 و12، 16ب، 17ب، 22-23، 8:2ب- 3أ، 6-12، 13ب، 20-22يهوي (J). تك 6:9-22، 7:6 و11،13- 16أ، 17أ (ما عدا «أربعين يوما»)، 18-21 و24، 8:1-2أ، 3ب-5، 13أ، 14-19 (كهنوتي «P»). (Bright, HI, 159)
2 (ب) الافتراض الوثائقي
حيث إنه لا يوجد مؤلف لديه سبب منطقي لأن يكرر نفس القصة مرتين، فإن تكرار روايات معينة (قصص متطابقة)، إنما يشير إلى وجود عدة مؤلفين لهذا السفر. أيضاً حيث إنه من الصعب أن يُتَّهم مؤلف واحد بتقديم تفاصيل ذات تناقض واضح، فإن هذه القصص التي تحدث بها هذه التناقضات إنما هي نتيجة لعمل منقِّح أو محرر للنص قام بدمج روايتين مختلفتين معاً لنفس القصة.
تحدث رولين والكر عن هذه الرؤية في كتابه «دراسة للتكوين والخروج» ص 240، والتي نقلها لنا و.ت. اليس: «من جهة مسألة مدى الدقة التاريخية لقصص أسفار التكوين والخروج، نحن نستحسن أن نأخذ بشكل ما نفس الاتجاه الذي اتخذه محرر الأسفار عندما قدم لنا روايتين ممتزجتين ومتعارضتين لنفس الحدث، وبذلك أقرَّ بأنه غير متيقن تماماً من أي من الاثنتين هي الصحيحة». (Allis, FBM,123)
أما أوتو إيزفلدت فيضع قائمة بما لا يقل عن تسع عشرة رواية لتكرار أو تناقض مزعوم. (Eissfeldt, OTI 189-90)
3(ب) الإجابة الأساسية
إن تكرار السرد مرتين أو ثلاثة لنفس القصة هو في الحقيقة قصص مختلفة بها تفاصيل متشابهة.
يلاحظ رافين فيما يتعلق بالرواية المزدوجة لقصص معينة في أسفار موسى الخمسة: «هذه الروايات ليست متطابقة فعلاً. والبعض منها ليس إلا قصص متشابهة، كما في الموقفين اللذين فيهما كذب إبراهيم بشأن امرأته ونفس الفعلة قام بها إسحق فيما بعد. هنا المنقِّح لابد أن يكون قد عرف أنهما متميزان تماماً. وفي قصص أخرى ثمة تكرار من وجهات نظر مختلفة، كما في رواية الخليقة في تكوين 2 التي هي من وجهة نظر إله الوحي والعناية. وأحياناً التكرار يكون بسبب الأسلوب العبراني والذي غالباً ما يقدم عرضاً عاماً كمقدمة ثم يتوسع في تفصيلها. (Raven, OTI, 124-25)
التفاصيل التي بها تناقض مزعوم في بعض القصص، إنما هي في الحقيقة تفاصيل تكميلية، ويمكن رؤية التناقض فيها فقط عندما يساء تفسيرها.
1(ج) قصة الخليقة
يقول هـ.هـ. رولي: «على سبيل المثال، بين روايتي الخلْق ثمة تعارض في تسلسل الخلْق، واختلاف في استخدام أسماء الله، واختلاف في تصوُّر الله، واختلاف في الأسلوب» (Rowley, GOT,24)
في هجومه على هذا الموقف، يشير كيتشن إلى وجود خطين لإثبات فكرة السرد المزدوج لروايات الخليقة، الاختلافات اللاهوتية والأسلوبية بين تكوين 1، 2 وما يبدو من اختلاف في ترتيب الخليقة. الاختلافات الأسلوبية ليس لها وزن كدليل، وتعكس ببساطة تغييرات في مادة الكتاب، وأما الحديث عن فهم الإله الفائق في تكوين 1 كنقيض للإله المجسم والموصوف في شكل بشري في تكوين2 فهو ليس سوى «مبالغة ضخمة وخداع صريح» (Kitchen, AOOT, 118)
ويوضح ي.ج. يونج هذا بقوله: «الإله المجسم والموصوف في شكل بشري في تكوين2 «يستحسن، يتنفس، يزرع، يضع، يحضر، يقترب، يبني، يمشي» لكن النقَّاد لديهم إثبات ظاهري وسطحي تماماً. فالإنسان بعقله المحدود لا يستطيع أن يعبِّر عن الافكار عن الله بأي وسيلة سوى التجسيم (إضفاء الصفات البشرية)، إذ يعبِّر الأصحاح الأول من التكوين عن الله بألفاظ بشرية مثل «دعا» «قال» «بارك» «رأى»، (وفي الآية 26 «نعمل»)، وعمل الله ستة أيام وبعدها «استراح». (Young, IT,51)
ويستكمل كيتشن: «ونفس الشيء يمكن أن يقال عن ترتيب الأحداث. ففي تكوين 2:19، ليس ثمة تبرير واضح في النصّ للزعم أن خْلق الحيوانات هنا حدث قبل تسميتها مباشرة (أي بعد خلْق الإنسان)، هذا تلفيق صريح وليس تفسيراً. فالمرادف المناسب بالإنجليزية لأول فعل في تكوين 2:19 هو الماضي التام Had formed (انتهى من الجَبِل). ومن ثم فإن الاعتراضات الزائفة بشأن ترتيب الأحداث تتلاشى». (Kitchen, AOOT, 118)
غير أن ثمة اختلاف جوهري في الروايتين يجب ذكره: إذ يصف تكوين 1 خلْق العالم، بينما يفصِّل تكوين 2 ويزيد في وصفه لخلْق آدم خاصة وبيئته التي عاش فيها في جنة عدن. وهي تظهر جلياً في الآية الاستهلالية في تكوين 2:4، «هذه مباديء السموات والأرض حين خُلِقت. يوم عمل الرب الإله - يهوه إلوهيم - الأرض والسموات». وفي كل أنحاء سفر التكوين تكرر تعبير «هذه مباديء» 9 مرات، وفي كل مرة تقدم رواية الذرية المنحدرة من سلف محدد. وهذا سوف يشير إلى أن في الآيات التالية لتكوين 2:4، سوف نجد رواية لذرية السموات والأرض بعد أن حدثت الخليقة الأولى. وهذا بالضبط ما نجده هنا في حالة آدم وحواء (عدد 7: الرب الإله - يهوه إلوهيم - جبل آدم تراباً من الأرض). (Archer, SOTI,118)
يجب التأكيد أننا هنا لا نملك نموذجاً للتكرار. لدينا هنا نموذج لشكل هيكلي للخليقة ككل، أعقبها تركيز مفصَّل على النقطة النهائية للشكل - وهو الإنسان. ولكن الافتقار إلى إدراك هذه الطريقة الأدبية العبرية يراها كيتشن بأنها تقود إلى الغموض المتعمَّد». (Kitchen, AOOT, 116-17)
يوضِّح كيتشن كيف أن علم الأثار قد كشف عن هذا النوع من الأساليب الأدبية، حيث أن هذا الأسلوب الأدبي شائع في النصوص الأخرى للشرق الأدنى القديم، على نقوش الكرنك التذكارية في مصر، في خطاب الإله آمون إلى الملك تحتمس الثالث يتجزأ هكذا:
الفقرة الأولى: تعبيراً عن سيادته على الجميع (هل الأسلوب المتنوع يشير إلى مصدر يهوي؟).
الفقرة الثانية: المزيد من التعبير الشعري الواضح على السيادة والتفوق (هل الصلابة تشير إلى مصدر كهنوتي؟).
النقوش التذكارية في جبل باركر متشابهة.
الفقرة الأولى: سيادة ملكية عامة (هل هي مصدر يهوي؟).
الفقرة الثانية: انتصارات محددة في فلسطين السورية (مصدر كهنوتي؟).
العديد من النقوش الملكية في أور ارطو تقدم أسلوباً مماثلاً:
الفقرة الأولى: الانتصار على بعض الأراضي ينسب إلى المركبة الحربية للإله هالدي.
الفقرة الثانية: تكرار مفصِّل لشرح هذه الفتوحات والانتصارات، هذه المرة باعتباره انتصاراً للملك.
تماماً كما أن نسب الأجزاء المتعددة من هذه النصوص المصرية لوثائق عديدة أمر غير مقبول في دوائر المثقفين، لذا فمن السخف أن نمارس تشريحاً للمصادر للأدب المعاصر لها المتواجد في التكوين 1، 2. (Kitchen, AOOT,117)
ويفسر أورّ هذه القضية كما يلي:
في البداية، ما مدى استمرارية المزاعم بأن «لدينا روايتين متعارضتين للخلْق». من المؤكد أن الروايات الموجودة في تكوين الأصحاح الأول والثاني مختلفة تماماً في الشخصية والأسلوب، وترى عمل الخلْق من وجهتي نظر مختلفتين. بيد أنهما ليسا متناقضتين، إنهما في الحقيقة يرتبطان معاً بأسلوب أقرب ما يكون إلى التتميم والتكامل . الرواية الثانية، عندما تؤخذ بمفردها، نجدها تبدأ على نحو مفاجيء ومبتور مع رجوع واضح للرواية الأولى: «يوم علم الرب الإله - يهوه إلوهيم - الأرض والسموات» (عدد 4). وفي الحقيقة أنه من المغالطة أن نتحدث عن الأصحاح الثاني باعتباره رواية للخلْق على الإطلاق، بنفس نظرتنا لرواية الخلْق بالأصحاح الأول، الأصحاح الثاني لا يتضمن أي رواية للخلْق سواء للأرض أو السماء، أو العالم بما فيه من حياة نباتية، لكن اهتمامه يتركز على خلْق الرجل والمرأة، وكل ما في الرواية يعامل من هذه النظرة. (Orr,POT,346,347)
2(ج) تسمية إسحق
نظرياً، هناك ثلاث وثائق لروايات تتعلق بإطلاق اسم إسحق تضمِّنها سفر التكوين (تك 17:17 (P) 18:12 (J)، 21:6 (E). فمن من غير المعقول أن نفترض أن إبراهيم وسارة ضحكا كلاهما من عدم الإيمان عندما علما بمفردهما أنهما سينجبا إسحق، ثم فيما بعد ضحكا فرحاً بميلاده؟
3(جـ) كذبة إبراهيم
يزعم النقَّاد أن الحادثتين التي قال فيهما إبراهيم عن سارة إنها أخته ليسا سوى تنويعات لنفس الحدث. فمن السذاجة أن نفترض أن الرجال لا يرتكبون أبداً نفس الخطأ مرتين أو يسقطون في نفس التجربة أكثر من مرة. في هذه الحالة، يتجلَّى ضعف وهشاشة هذه المزاعم عند إدراك أن إبراهيم جني مكاسب وغنى في كلتا الحادثتين .(Archer, SOTI, 120)
4(ج) كذبة إسحق
عندما سمح إسحق بأن تعامل زوجته باعتبارها أخته عندما كان أبيمالك ملكاً على الفلسطينيين في جرار (تك 26:6-11)، قدم تشابهات مدهشة للرواية (التي تنسب إلى التقليد الإلوهيمي E) لقصة إبراهيم وسارة في تك 20، فإذا فهمت هذه الروايات كنسخ مختلفة لنفس الحادث قام المنقَّح بإدماجها للتكوين، هنا العديد من المزاعم شديدة الصعوبة يجب أن تظهر.
(1) إن الأبناء لا يتبعون أبداً المثال السييء للآباء.
(2) إن العادات الجنسية لشعب جرار تغيرت للأفضل في عصر إسحق.
(3) إن السلالة الحاكمة الفلسطينية لم تورث أبداً نفس الاسم من حاكم إلى آخر (مثلاً، أبيمالك الأول، ابيمالك الثاني، ... وهكذا)، حتى أن السلالة الحاكمة في مصر مارست نفس الأمر (سنوسرت الأول والثاني والثالث، أمنحتب الأول حتى الرابع). ونفس الممارسة حدثت في فينيقية. فقد حكم سلسلة من الذين اطلق عليهم حيرام أو أهيرامس على مدينة صور وصيدا. ومن الجدير بالذكر أن رواية كذبة إبراهيم الأولى بشأن طبيعة علاقته بسارة (تك 12) تنسب إلى التقليد اليهوي مع الرواية المتشابهة في تكوين 26 لإسحق ورفقة. وهناك شاهد آخر يستخدمه النقَّاد لروايات متكررة لوصف حوادث منفصلة تماماً وينسب إلى التقليد (الإلوهيمي) لزيارتي يعقوب إلى بيت إيل (تك 35:1-8، وتك 28:18-22). (Archer, SOTI, 120-121)
5(ج) إطلاق اسم بئر سبع
نكتشف في التكوين قصتين لتسمية البئر في بئر سبع - الأولى بواسطة إبراهيم في تك 21:31 (تنسب إلى J) ثم بواسطة إسحق في تك 26:33 (تنسب إلى P). غير أنه ليس هناك أي دليل على وجود نسختين (J وP) لنفس القصة. ففي ضوء العادات البدوية لإبراهيم وإسحق، يبدو من الأرجح أن البئر قد ردمها أعداء إبراهيم بعد وفاته أو رحيله، ولم تنقب من جديد إلا على يد إسحق عندما عاد إلى أرض أبيه. ومن المعقول أن نرى إسحق يحيي الاسم القديم ويعيد تأكيد العهد الذي يمنحه الحق في هذا البئر. (Archer, SOTI, 121)
6 (ج) ازدهار قطيع يعقوب
يقّسم درايفر تك 30:25 وتك 31:18 إلى قسمين: تك 30:25-31، والذي يأتي بشكل أساسي من مصدر يهوي، وتك 31:2-18، المأخوذ أساساً من مصدر إلوهيمي. وهو يؤكد:
«يقدم المصدران روايتين مختلفتين للاتفاق بين يعقوب ولابان، والطريقة التي نجح بها يعقوب رغم ذلك. فالنجاح الموجود في 30، 35 ينسب إلى حيلة يعقوب، مع تأثير القضبان الخضر على الأغنام في القطيع، بينما ينسب في 31:7-12 إلى إحباط التدابير الإلهية لغدر لابان، عندما ظَّل يغير أجرته عدة مرات، لكن الله أثرى يعقوب، وهو ينسبها إلى حقيقة أن الفحول الصاعدة على الغنم مخططة ورقطاء كانت مثمرة فقط» (Driver, ILOT,15)
عندما يتم سماع هذين الأصحاحين لما يقولاه ويتم تقييمهما في ضوء باقي الكتاب المقدس وكذلك أثار الشرق الأدنى، نجد أنهما لا يتضمنان أي تناقض أو يستلزم وجود مصدرين مختلفين. فالأصحاح الثلاثون يتضمن وصف الكاتب الموضوعي (معتمداً على الحواس) للتكاثر الانتقائي الذي قام به يعقوب في هذا الموقف. وفي الأصحاح 31 يُرجِّع الكاتب الحادث من منظور يعقوب (في الحوار) عندما يتحدث يعقوب مع زوجاته، وينسب إلى الإله كلِّي الحكمة فضل معرفته وبخاصة في هذه المغامرة. لقد كان على يعقوب أن يدرك في النهاية أنه لم يكن لحيلته قبل ولادة الغنم أي تأثير (وهل كان لها تأثير على الإطلاق؟). لكن الله وحده من قام بالعمل! من ثم فإن تك 30 تسجل ما فعله يعقوب وتمنَّاه، ولكن تك 31 تعلِّمنا ما حدث فعلاً، وحتى يعقوب كان عليه أن يعرف ذلك ويقبله. وفيما بعد أورد يعقوب تفاصيل استكمالية وليست تفاصيل متناقضة.
وثمة أمثلة عديدة لحادثة يتم وصفها من منظور إنساني وإلهي يمكن أن نجدها في الوحي المقدس (القضاة 7:7 و21-23، خر 14:21، تك 4:1).
ويمكن أيضاً أن نجد ذلك في ثقافات أخرى قديمة في الشرق الأدنى. ويستشهد كيتشن بالنقوش الملكية في أورارتو Urartu، وفيه فقرة تنسب الانتصار على بعض الأمم بمعونة المركبة الحربية للإله هالدي. وفي الفقرة التالية يكرر نفس الانتصارات بمزيد من التفاصيل باعتبار أن الملك هو من أنجزها. ولن يخطر ببال أي ناقد أن يقسِّم هذه الرواية إلى مصادر متنوعة على مثل هذه الخلفيات. (Kitchen, AOOT, 117)
7(ج) تواصل الوثائق المنفصلة
يؤكد ايزفلدت أن أحد سمات السرد الروائي لأسفار التوراة هو «مزج القرائن المتآلفة والتي هي لذلك غير كاملة». (Eissfeldt, OTIT,189)
واحدة من الأسباب المدمرة للنقد العالى التي تدفعهم للتمسك بوجود عدة مصادر ممتزجة في بعض الروايات يكمن في دليل أنه عندما تنفصل هذه المصادر وتوضع كل الفقرات اليهوية معاً وكل الفقرات الكهنوتية معاً، فإنهما يشكلان قصتين منفصلتين ومستمرتين ومترابطتين.
قدم الكاتب الراحل وليم هـ. جرين في كتابه «النقد العالى لأسفار موسى الخمسة» توضيحات مدهشة لمدى اعتباطية هذا الدليل. وأخذ مثل الابن الضال من العهد الجديد وأخضعه لنفس المعاملة التي يعامل بها النقَّاد بعض روايات التوراة. وهذه هي نتائجه (العبارات في الجمل الاعتراضية ينسبها جرين إلى «منقِّح»).
على الرغم من أن هاتين القصتين اختلقهما جرين على نحو اعتباطي من قصة واحدة، فكلاً منهما لديها سمات متميزة، والتي يمكن أن تنطلي على شخص لا يعرف خطة جرين الذكية ويعتبرها دليلاً على التأليف المركب.
تتفق أ و ب في وجود ابنين، واحد منهما حصل على نصيب من ثروة أبيه، ونتيجة لخطئه وقع في فقر مدقع، ونتيجة لذلك عاد نادماً لأبيه، وخاطبه بلغة شديدة التطابق في الروايتين. استقبله أبوه بعطف وحنان ومظاهر البهجة وهو ما جذب انتباه الأخ الآخر.
والاختلافات بينهما مدهشة وقوية تماماً كنقاط الاتفاق. في (أ) طلب الابن الأصغر نصيبه بالتوسل واحتفظ الأب بالباقي ضمن ممتلكاته، في (ب) قسَّم الأب ثروته بين ابنيه بناء على اقتراحه. في (أ) ظل الابن المبذر في منطقة أبيه، وأوقع نفسه في فقر مدقع بعيشته المبذرة، في (ب) ذهب إلى كورة بعيدة وأنفق كل ثروته، ولكن لا يوجد تلميح أنه انغمس في تجاوزات غير لائقة، بل بالأحرى كان يبدو أنه طائش، ولتتويج محنته وسوء حظه حدثت هناك مجاعة شديدة، ويبدو خطأه متركزاً في ذهابه بعيداً عن أبيه وعن الأرض المقدسة، وأنه عمل في مهنة نجسة في رعاية الخنازير. في (أ) يبدو الفقر بشكل رئيسي في احتياجه إلى الملبس، في (ب) يظهر في الحاجة إلى الطعام. ولذلك في (أ) أمر الأب بالحلَّة الأولى والخاتم والحذاء ليرتديها الابن، لكن في (ب) ذبح العجل المسمن، في (ب) جاء الابن من أرض بعيدة، ورآه الأب من بعيد، في (أ) جاء من الجوار، وجرى الأب عليه وركض على عنقه وقبله. في (ب) عمل الابن في مهنة حقيرة، ولذا فقد ذكَّره ذلك بأجراء أبيه العبيد، وطلب أن يكون هو نفسه أجيراً، في (أ) كان يعيش مترفاً، وعندما كان يعترف بعدم استحقاقه لم يقدم أي طلب أن يوضع في منزلة الخادم، في (أ) يتحدث الأب عن ابنه أنه كان ميتاً بسبب عيشته المبذرة، في (ب) يتحدث عن أنه كان ضالاً بسبب غيابه في أرض بعيدة، في (أ) فقط وليس في (ب) كان الابن الآخر غاضباً بسبب الاستقبال والاحتفال بالابن المبذر، وهنا يبدو أن المنقِّح تدخل في النص، لابد أن الابن الأكبر قال لأبيه في (أ) «لما جاء ابنك هذا الذي أكل مالك مع الزواني ألبسته الحلة الأولى». هنا استخدم المنقِّح في (ب) كلمة «معيشته» بدلاً من كلمة «مال» التي تستخدم في (أ) وكذلك استخدم (ب) تعبير «ذبحت له العجل المسمن» بدلاً من ألبسته الحلة الأولى. (Green, HCP, 121-22)
ويشير جرين إلى تجربة أخرى مشابهة، كتاب بعنوان «شرح رسالة رومية» لـ أ.د. ماك ريلشام، الاسم المستعار للبروفسير س.م. ميد، المدير السابق للمعهد اللاهوتي، يعلق جرين:«إن ثمرة مناقشته المبدعة والعلمية هي إثبات أن هناك دليلاً يبدو معقولاً ظاهرياً يمكن إيجاده من الأسلوب والأداة والمحتويات العقائدية للأقسام الأربعة من الرسالة إلى رومية كتلك الشخصية المركبة لأسفار التوراة». (Green, HCP, 125)
1(د) قصة الطوفان
يكتب رولي:
مرة ثانية مع قصة الطوفان، نجد أنه طبقاً لتكوين 6:19، أمر الله نوحاً أن يأخذ زوج واحد من كل الأحياء إلى داخل الفلك، بينما تبعاً لتكوين 7:2 قيل لنوح أن يأخذ سبعة أزواج من جميع البهائم الطاهرة وزوج واحد من البهائم غير الطاهرة. في حين يؤكد تك 7:8 هذا التعارض من خلال تقريره الواضح أن الفلك دخل فيه زوج واحد من كل البهائم الطاهرة وغير الطاهرة، ومع أنه من المحتمل أن التأكيد على التعارض غير أساسي. وبالمثل يوجد اختلاف وتباين في فترة بقاء الطوفان، فطبقاً لتكوين 7:12 استمرت الأمطار أربعين يوماً، وبعدها تبعاً لتكوين 8:6، انتظر نوح لبعض الفترات من الأسابيع قبل أن تنقص المياه، بينما تبعاً لتكوين 7:24 فقد تعاظمت المياه على الأرض مئه وخمسين يوماً، ولم تنقص أخيراً إلا بعد سنة وعشرة أيام من بداية الطوفان (تك 8:14) (Rowley, GOT,18)
ويؤكد كيتشن:
كثيراً ما ظهرت مزاعم مثلاً، إن تكوين 7 و8 يقدمان تقديرين مختلفين لفترة استمرار الطوفان، غير أنهما في الحقيقة ليسا سوى استنتاج نظري.
النصّ الكتابي واضح وراسخ في تقديمه فترة العام وعشرة أيام (إحدى عشر يوماً، لو تم حساب اليوم الأول والأخير) باعتبارها الفترة الإجمالية لمرحلة الطوفان، كما أشار بوضوح العديد من العلماء أمثال ألدرز وهيدل وغيرهما منذ فترة طويلة.
وبالمثل الصدام المزعوم بين تك 6:19 و20 وبين تك 7:2و3 على «اثنين من كل» و«سبعة ذكراً وأنثى» هو صدام وهمي. ففي تك 6:20 كلمة Shenoyim التي تعني زوجاً، من المحتمل أن تستخدم للتعبير عن عدة أزواج مع اعتبار أن هذه الكلمة العبرية للمثنى لا تجمع، تك 6:19 و20 وتك 7:8 و9 هي تعبيرات عامة بينما تك 7:2و3 أكثر تحديداً (إذ توضح الزوج والسبعة أزواج). (Kitchen, AOOT, 120)
يزودنا الكسندر هيدل بتحقيق شامل بحسابات الكتاب المقدس لفترة استمرار الطوفان:
إن النقد الوثائقي المعاصر، كما هو معروف، يرى في حساب سفر التكوين مزيجاً من مصدرين رئيسيين، وفي بعض النقاط يكونا شديدا التناقض، لكن المنقِّح دمجهما معاً. وتبعاً لأحد المصدرين، ويطلق عليه P أو (المصدر الكهنوتي)، بدأ الطوفان في اليوم السابع عشر من الشهر الثاني (7:11) وانتهى في اليوم السابع والعشرين من الشهر الثاني من العام التالي (8:13-14)، ولذا فقد امتدت فترة الواقعة لعام وأحد عشر يوماً، ولكن تبعاً للمصدر الآخر الذي يطلق عليه (J) (أو الرواية اليهوية) فقد ظلت الأمطار تمطر أربعين يوماً وأربعين ليلة، وفي نهايتها فتح نوح كوة الفلك وأطلق أربعة طيور على مدى ثلاثة أسابيع متتالية (8:6-12)، وعندها كشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف (عدد 13ب)، وبالتالي فإن فترة بقاء الطوفان لم تدم أكثر من أحد وستين يوماً.
وإنني لا أستطيع أن أتفق مع هذا الرأي، غير أن هذا ليس المكان المناسب للدخول في مناقشات حول المشكلات المتضمنة، غير أن كلمات قليلة ستكون كافية. إنني أنكر تماماً أن ثمة عدد من الوثائق المختلفة قد تم استخدامها في تركيب قصة الطوفان بالكتاب المقدس، لأن الأسفار المقدسة نفسها تشير بوضوح أن الكتَّاب المقدسين استخدموا تسجيلات مكتوبة ومصادر أخرى شبيهة في الإعداد لكتابة أسفارهم. ولكن، على الرغم من المزاعم المفترضة، فإنني غير مقتنع على الإطلاق أن محتوى الكتاب المقدس يمكن أن يفكك إلى عناصره الأساسية بأي درجة من اليقين. علاوة على ذلك، إنني لست متعاطفاً مع الممارسة الشائعة لمعاملة البقايا المزعومة من كل وثيقة مفترضة كما لو أنها شكَّلت الكل، وما ينتج عنها أن حساب التكوين للطوفان، والذي نحن الآن مهتمون به وحده ينتج عنه وجود تعارض حقيقي. فلابد أن يظهر للقاريء غير المتحيز أن رؤية سفر التكوين للطوفان، كما يقسِّمها نقَّاد الكتاب المقدس المعاصرون، تظهر العديد من الفجوات المهمة في الأجزاء التي تنسب إلى المصدر اليهوي والكهنوتي، ومن ثم، فإذا كان لنا الإطِّلاع على النص الكامل لهذه الوثائق المزعومة الملقبة باليهوية والكهنوتية (مع افتراض، جدلاً أن هذه الوثائق لها وجود أصلاً)، فسنجد لحظتها أنه لا يوجد أي تناقض على الإطلاق بين الاثنين، ولكن حتى بدون هذا الاطِّلاع، فقد بدا واضحاً مراراً وتكراراً أن هذه التناقضات المزعومة في رواية التكوين يمكن التعامل معها بحلّ بسيط ومعقول لو تَركت القصة كما هي في النص العبري.
وخير إيضاح لما لدينا في النقطة التي نفحصها هو فترة امتداد الطوفان. فإذا تركنا النصّ الكتابي كما هو الآن وتعاملنا مع القصة باعتبارها كتلة واحدة، فإن البيانات العددية لفترة امتداد الطوفان ستكون في غاية التوافق، كما هو مبين فيما يلي:
فطبقاً لتكوين 7:11، أن الطوفان بدأ في السنة الستمائة من حياة نوح، في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر، وجاء بعد سبعة أيام من تلقي نوح الأمر بدخول الفلك (7:1-4 و10)، وظلت تمطر على الأرض (أربعين يوماً وأربعين ليلة) (عدد 12). ولم يذكر في أي مكان أنه بعد تلك الفترة توقفت الأمطار عن الهطول تماماً، بل على العكس، استمرت الأمطار والتدفق المتصاعد من ينابيع المياه الجوفية، لأنه بوضوح أن ينابيع الغمر انفجرت وانفتحت طاقات السماء وأن الأمطار لم تتوقف من السماء... حتى نهاية مئة وخمسين يوماً بعد انفجار الطوفان، ولهذا السبب ظلَّت المياه تتصاعد أو حافظت على ارتفاعها الأقصى خلال ذلك الوقت (7:24-8:2). ولكن بينما ينابيع المياه ربما تكون قد استمرت في التدفق بقوة كبيرة حتى بعد الأربعين يوماً الأوائل، فإن التدفق الغزير والمنطلق وغير المتقطع من السماء لابد أن يكون قد توقف ولابد أن الأمطار قد استمرت بصورة أكثر اعتدالاً، لأننا نقرأ في 7:12 «وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة» وفي عدد 17 «وكان الطوفان (Mabbul) أربعين يوماً على الأرض، وكما أشرنا من قبل، فإن لفظ (Mabbul) في عدد 17 تصف بلاشك هطول الأمطار بشكل لم يسبق له مثيل من السماء، والتي جعلت المياه تتعاظم على وجه الأرض. ومن هنا، يبدو واضحاً تماماً أنها كانت الأمطار الغزيرة المتدفقة التي انهمرت بعد الأربعين يوماً.
وبعد انتهاء الـ 150 يوماً بدأت المياه في التناقص تدريجياً (8:3)، وفي اليوم السابع عشر من الشهر السابع استقر على جبال أراراط (عدد4.) وكان هذا بالضبط خمسة أشهر ويوماً واحداً من بداية الطوفان (7:11).
والنتيجة الواضحة تبرز أن الـ150 يوماً تشكِّل 5 أشهر، وبالتالي، كان شهراً مكوناً من 30 يوماً. مع اليوم الذي بدأت فيه الأمطار في التناقص، مع المئة وواحد وخمسين يومآً منذ بداية الطوفان، استقر الفلك، واستمرت المياه في التراجع حتى اليوم الأول من الشهر العاشر ظهرت قمم الجبال (8:5). لو احتسب الشهر بـ30 يوماً، فهذا يعطينا 74 يوماً إضافياً، وينتج عنه إجمالي 225 يوماً. وبعد أربعين يوماً من هذا التاريخ (اليوم الأول من الشهر العاشر)، فتح نوح طاقة الفلك وأرسل أربعة طيور على مدار ثلاثة أسابيع متتالية (أعداد 6- 12). ومنذ إطلاق الطائر الأول في اليوم الحادي والأربعين، هذه الأعداد تضيف 62 يوماً إضافياً وتصل بالإجمالي إلى 287 يوماً، وأُرسل الطائر الأخير في اليوم الـ 287 من بداية الطوفان، أو (بإضافة الـ 46 يوماً من السنة التي انقضت قبل انفجار الطوفان) على الـ 333 يوماً للسنة. وبالتالي، نكون قد وصلنا لليوم الثالث من الشهر الثاني عشر، وبعدها بـ 28 يوماً، في اليوم الأول من العام التالي، وفي السنة الستمائة وواحد من حياة نوح، جفَّت المياه من على الأرض (ولكن وجه الأرض لم يكن قد جفَّ تماماً، وكشف نوح الغطاء عن الفلك (عدد 13). وبعد ذلك بشهر وستة وعشرين يوماً، وفي اليوم السابع والعشرين من الشهر الثاني، صارت الأرض جافة وصلبة من جديد، وترك نوح الفلك (عدد 14 وما بعده)، وهاتان الفترتان تشكلان 84 يوماً، وبإضافة هذه الأيام إلى 287، يكون لدينا إجمالي 371 يوماً، أي عاماً و11 يوماً. تبدأ بتفجرَّ الطوفان، وهكذا يظهر أنه لا يوجد هنا أي تناقض بأي شكل (Heidel, GEOTP, 245-247)
إذن ليس فقط أن هذه التناقضات المزعومة غير موجودة لكن أيضاً أن الروايتين معتمدتين إحداهما على الأخرى بشكل عفوي وهذا يشكِّل فعلياً وحدة واحدة.
ويشرحها رافين قائلاً:
لم يتمكن النقَّاد من انتزاع تسجيلين مكتملين على نحو مقبول للطوفان. بداية الأصحاح السابع تنسب للمصدر اليهوي (J) فلو كان ذلك صحيحاً فإن هذا المصدر يخبرنا أن الله أمر نوحاً أن يدخل هو وعائلته إلى الفلك، دون أن يقول كلمة واحدة عن بناء الفلك أو أعضاء عائلة نوح، إذ أن الأصحاح السابع يحتاج بشدة إلى ما بيَّنه أصحاح 6:9-22 لتكون روايته كاملة أو مفهومة. يقول تك 8:13 «... فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف». وهذه تنسب إلى المصدر اليهوي (J) ولا تنسب إليه كلمة واحدة حتى العدد 20 الذي نقرأ فيه: «وبنى نوح مذبحاً للرب». وهذه الفجوة الخطيرة يسدها الفقرات التي ينسبها النقَّاد إلى المصدر الكهنوتي (P). علاوة على ذلك تك 9:1-17 (P) ليس تكراراً بلا طائل لـ تك 8:12-22 (J)، لكنه توسيع وإضافة لعهد الله مع نوح بعد أن بنى المذبح للرب (يهوه) وبدء حياته من جديد على الأرض (Raven, OTI,125)
2(د) رحلة إبراهيم
كما اكتشف النقَّاد أيضاً قصتين حدث تركيب بينهما في الأصحاح 11 وحتى الأصحاح 13 من التكوين، والتي يشرحها أور ويجيب عليها هكذا:
بعد العديد من الاختلافات في الآراء، استقر النقَّاد على أن ينسبوا تك 11:28-30 إلى (J)، والأعداد 27 و31 و32 إلى (P)، وراء ذلك فقط الأصحاحات 12:4ب و5 و13:6، 11ب، 12تنسب إلى (P) في الأصحاحين الثاني عشر والثالث عشر. ولكن هذا ينتج عنه بعض النتائج المهمة، ففي (11:28) القصة اليهوية (J) تبدأ على نحو مبتور ومفاجيء ودون أن تخبرنا من هم تارح وهاران وأبرام وناحور، وهو بذلك يحتاج إلى عدد 27 لتفسيره. ويحدد المصدر اليهوي (J) مكان سكني العائلة في أور الكلدانيين (وأي مكان آخر ينسب إلى المصدر الكهنوتي (P)، ولا شيء يرتبط بهجرة حاران (أعداد 31 و32 تنسب للكهنوتي P). غير أن هذه الهجرة تفترض بوضوح في دعوة إبراهيم في تك 12:1. وفي عدد 6، قيل إن إبراهيم اجتاز في الأرض إلى مكان شكيم، ولكننا لم نعرف أي أرض. إنه المصدر الكهنوتي P وحده الذي يخبرنا عن رحيله عن حاران ومجيئه إلى أرض كنعان (أعداد 4ب و5). ولكن هذا غريب عن المصدر الكهنوتي (P) أن يفترض أن الرحيل من حاران أمر معلوم (عدد 4ب)، ولذا فهو يحتاج للنصف الأول من العدد وهو المنسوب للمصدر اليهوي (J). بمعنى آخر القصة كما هي بين أيدينا تشكل وحدة واحدة، وأي تقسيم بين آياتها يدمرها (Orr,POT, 351).
3(د) بركة إسحق
وبالمثل فشل تكوين 27 في الهروب من مشرط النقَّاد. يبدأ الأصحاح برواية استعداد إسحق لمنح بركته لعيسو. وتمدنا الأعداد الأربعة الأولى بمثال رائع للأسلوب الاعتباطي الذي يستخدمه النقَّاد في تشريح الفقرات.
يقول العدد الأول: «وحدث لما شاخ إسحق وكلَّت عيناه عن النظر أنه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال له يا ابني. فقال هأنذا»، لأن هذه الفقرة تنسب إلى المصدر (J) تمَّ حذف العبارة الأخيرة: «وقال له يا ابني، فقال هأنذا» لأن بها مظهر متميز للمصدر الإلوهيمي (E). ولكن بالتأكيد هذه الصيغة الرئيسية لا يمكن أن تنسب لأحد المؤلفين وتستبعد عن الآخرين. إن ذلك لا يدعمه النصّ، فتكوين 22: 11 يسجل الكلمات: «فناداه ملاك الرب (يهوه) وقال إبراهيم. إبراهيم. فقال هأنذا» «والنقَّاد هنا لا يكتفون فقط باستبدال اسم يهوه بإلوهيم، لكنهم يذهبون إلى نسب كل الفقرات التي تتضمن هذه الصيغة بدون اسم إلهي إلى المصدر (E). وهذا نموذج صارخ على البرهان الدائري. علاوة على ذلك، لو قمنا بحذف الصيغة من تك 27:1، فسنتوقع أن يكتب في الآية: «وقال إسحق له» لكن هذه الكلمة مفقودة من النصّ العبري وتؤيد أن الجملة ليست هي مفتاح الحوار.
ويتواصل عدد 2 وحتى عدد 4، «فقال (إسحق) إنني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي. فالآن خذ عدتك جعبتك وقوسك واخرج إلى البرية وتصيَّد لي صيداً، واصنع لي أطعمة كما أحب وآتني بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت».
إن الزعم بأن الكلمات: «واصنع لي أطعمة.. لآكل» تمثل موتيفة (فكرة) مختلفة لنفس القصة، حذفت العبارة ونسبت إلى المصدر (E)، أما باقي تنويعات هذه الموتيفة تتخصص في «الصيد» كنقيض لـ«أطعمة». التي تنسب إلى (J) وبذلك تقرأ (E) كالتالي: «فالآن خذ عدتك... وتصيَّد لي صيداً، حتى تباركك نفسي قبل أن أموت». وهذا يهمل تماماً النقطة شديدة الأهمية أن عيسو عاد بالصيد وطبخه لأبيه، وعلى الجانب الآخر، نقرأ (J): «واصنع لي أطعمة كما أحب... حتى تباركك نفسي قبل أن أموت». هنا يزداد الالتواء والحيرة في قصتنا، لدرجة أن الصَّياد الشجاع يتدنى إلى مهمة الطبخ.
وهكذا فإذا أخذناها كما هي، فإن هذه الفقرة تبدو واضحة ومعقولة تماماً، ووحدة صافية، أما بتشريحها فإنها تصبح بلا معنى. (Cassuto, DH, 87-97)
4(د) سيرة يوسف
يتحدث رولي عن تناقضات في هذه القصة أيضاً: «في تكوين 37:27 يقترح يهوذا أن يتم بيع يوسف للإسمعيليين، وتذكر الآية التالية أن ذلك تمَّ بالفعل، بينما (تك 39:1) يقول إن الإسمعيليين باعوه لرجل مصري، ولكن تك 37:28 يقدم لنا كذلك المديانيين الذين مرّوا على يوسف وأصعدوه من البئر وسرقوه بدون علم إخوته (عدد 29). والمديانيون قاموا فيما بعد ببيع يوسف إلى فوطيفار (تك 37:36). (Rowley, GOT,18-19)
ويعود كيتشن للجواب على هذه المسألة:
كثيراً ما يجزم بأن تك 37 يتضمن أجزاءً عن روايتين متناقضتين عن كيف تمَّ بيع يوسف إلى مصر: (أ) إخوته باعوه إلى الإسمعيليين ومنهم إلى مصر (تك 37:25 و28ب، 45:4 و5) و(ب) المديانيون أصعدوه من البئر (تك 37:28أ و36؛ 40:14 و15). ولكن الحقيقة أبسط من ذلك بكثير.
أولاً: إن اللفظين «إسمعيليون/مديانيون» يتشابكان، ويشيران إلى نفس الجماعة كلياً أو جزئياً (انظر قض 8:24).
ثانياً: إن الضمير المستتر في «أصعدوه وباعوه» في تك 37:28 يعود بالإشارة إلى إخوة يوسف، وليس للمديانيين، وفي اللغة العبرية ما يسبق الضمير ليس دائماً الاسم السابق، ولو أن ذلك ليس صحيحاً فإن عبارة «... لأنه أشاع اسماً ردياً...» في (تث 22:19) سوف تشير إلى الأب البريء، وبالمثل الضمائر «له» و«أنه» في (تثنية 22: 29) تعود إلى رجل آخر غير المقصود، وهكذا يتكرر الأمر بنفس الطريقة في أماكن مختلفة من الكتابات العبرية. وفي مصر، يذكر إنيني (INENI) بعد حديثه عن تحتمس الثاني ارتقى ابنه (ابن تحتمس الثاني) الحكم، ثم جاء الحكم الفعلي لأخته.. حتشبسوت ولكن «أخته» هنا تعود بالإشارة إلى تحتمس الثاني، وليس ابنه.
ثالثاً، في حديثه على انفراد مع أخوته كان باستطاعة يوسف أن يكون فظاً وقاسياً مع إخوته (تك 45:4و5) ويقول لهم : «الذي بعتموه»). ولكن عندما طلب خدمة من الساقي الملكي، وهو رجل أجنبي عنه، لم يستطع أن يكشف عن الحقيقة المخزية أن إخوته الذين من دمه ولحمه أرادوا أن يتخلصوا منه (تك 40:14 و15). مهما كان الظلم، ماذا كان سيكون انطباع الساقي نتيجة لهذا الاعتراف؟ (Kitchen, AOOT,119-20)
جدير بالذكر أن الإشارة إلى كونه «قد سُرِقَ» في (تك 40:14 و15) هو صحيح تماماً حيث أن يوسف اُختطف أو «سُرِق» فعلياً من والده، والذين قاموا بذلك هم إخوته وكانوا هم السبب في سرقته من «أرض العبرانيين».
ويعبر كاسيتو عن ضيقه وحزنه من هجمات النقَّاد على قصة مثل الحادث الذي تَّم شرحه الآن، ويسجل بشكل ملائم أن هذا الحادث «يقدم نموذجاً أية في جمال الفن الروائي، وبتمزيقه فنحن ندمر عملاً أدبياً رائعاً، يصعب أن نعثر على نظير له. .(Cassuto, DH, 96)
8 (ج) براهين أخرى لتفسير الروايات المتكررة
يتسم الأسلوب العبري بثلاث ميزات بارزة توضِّح مشكلة الروايات الحافلة بالتكرار:
1(د) التتابع في بناء الجملة
وهي كما يكتب آرشر:
تقوم على ربط الأفكار الثانوية أو المعتمدة على بعضها معاً بواسطة (رابطة) بسيطة وهي «و» (Archer, SOTI, 122)، ولذا فإن هذا العطف ربما يستخدم لتوصيل معنى «لكي» أو «عندما» أو «بينما» أو «عندها» و«حتى» أو «هذا ما يقال»، وهي تنويعة مقبولة ومعترف بها من قِبَل كل علماء النحو في اللغة العبرية.
ويتوسع أليس أكثر في شرحه:
ليس نادراً عند العبرانيين استخدام العبارات التابعة كما في اللغة الإنجليزية، ولكنهم كثيراً جداً ما يربطون العبارات بالعطف بـ«و» والتي فيها سنخضع عبارة للأخرى.. ولذا، فلن يلاحظ أن هذا الميل بإلحاق جمل كاملة معاً على نحو غير محكم بواسطة «و»، تبدو وكأن الكاتب يكرر نفسه. وهذه الجمل غير المرتبطة بإحكام والتي تشير جميعها لنفس الحدث أو الموضوع ربما تبدو أكثر أو أقل تكراراً، وكذلك تفتقد التتابع الدقيق منطقياً أو المرتب زمنياً، كما أن البساطة الشديدة لتركيب العبارة يجعل من السهل نسبياً شطر أو تقسيم هذه الجمل، للتأكيد على أنها تشرح نفس الحدث من وجهات نظر مختلفة بل وحتى متصارعة ويجب أن تنسب لمصادر مختلفة، فلو أن القصص الكتابية كُتبت بجمل وعبارات معقدة ومتكررة ودورية كبعض الأساليب الأدبية الحديثة فإن هذا التحليل سوف يكون أصعب بكثير بل ربما يكون مستحيلاً. (Allis, FBM,96-97)
إن إساءة فهم هذا المبدأ الأساسي يجعل الكثيرين يزعمون بأن ثمة محرِّر متأخر دمج مصادر معاً بصورة غير متقنة باستخدام أداة العطف «و» ولكن تشريح مماثل سيكون مستحيلاً في لغة أكثر دقة في هذا المنحى، مثل اللغة اليونانية الكلاسيكية أو اللاتينية. (Archer, SOTI, 122)
2(د) التكرار للتأكيد
يقول أرشر إن ذلك: يظهر في المَيل إلى التكرار باختلافات ضئيلة لا تذكر لكي تبرز أن هذه العناصر الروائية شديدة الأهمية. (Archer, SOTI, 122)
يطور أليس هذه الفكرة، شارحاً أن: «الكتاب المقدس هو كتاب شديد الميل إلى أساليب التأكيد، وهدفه هو أن يطبع في إدراك السامع أو القاريء مدى الأهمية العظيمة للأفكار التي يتناولها، وأكثر الطرق الطبيعية لضمان التأكيد في الرواية هو الإسهاب أو التكرار، ومن ثم فإن الأسلوب الكتابي كثيراً ما يسهب بلا تردد ويتسم بالتوسع في التفاصيل وبالتكرار». (Allis, FBM,97)
قصة الضربات العشرة (خر 7- 11) تمدنا بخير مثال لهذا. فبعض من هذه الضربات يتم شرحها في 5 خطوات. تهديد فأمر والمحادثة ثم الصلاة لإزالة الضربة وأخيراً نهاية الضربة. وبإساءة فهم الطبيعة التوكيدية لهذا التكرار، اتجَّه النقَّاد الراديكاليون إلى نسب 7 ضربات إلى المصدر اليهوي، و5 إلى المصدر الإلوهيمي و4 فقط إلى الكهنوتي (ليس من بينهن الخامسة التي هدَّد بها ولكنها لم تنفذ). وهذا يتركنا مع ثلاث روايات غير مكتملة، وكل منها تحتاج إلى محتوى الآخرين لتكون كياناً مقنعاً». (Archer, SOTI, 122-123)
3(د) التوازي الشعري
بكلمات أرشر هو «البناء المتوازن لعبارات مزدوجة والتي تستخدم باتساع شديد في الشعر العبري» . (Archer, SOTI, 123)
ومرة ثانية، يقدم أليس بياناً واضحاً في هذا الموضوع:
أثناء التعامل مع مسألة التكرار، من المهم ملاحظة أن التكرار أو التوازي في الأسلوب والصياغة والمحتوى هو سمة مميزة للشعر العبري. وهي واضحة لدرجة لا تستلزم معها أي برهان، ومثال توضيحي معروف لهذا التوازي الترادفي العملي فيما يلي:
«ناموس الرب (يهوه) كامل يرد النفس، شهادات الرب (يهوه) صادقة تصّير الجاهل حكيماً» (مز19:7).
وفي شرحه لدور هذا التوازي بعيداً عن الإطار الشعري، يوضِّح أليس قائلاً: «لقد بدا واضحاً تماماً أن الخط الفاصل بين النثر والشعر لم يحدد بدقة أو بثبات، ولكن النثر الرفيع المستوى وملتهب العواطف ربما يتقارب بدرجة لصيقة إلى الشعر في التوازي». (Allis, FBM, 108-9)
عندما يتم تبادل الأسماء الإلهية بمثل هذه الطريقة المتوازية، فعندها يجب أن نعزِي ذلك إلى الأسلوب الشعري، وليس إلى مصادر مختلفة. فتكوين 30:23 و24 توضح هذا: «فقالت قد نزع (أساف) الله (إلوهيم) عاري.. يزيدني (يوساف) الرب (يهوه) ابناً آخر».
وتقسيم هذه الفقرة ونسبها إلي مصدر (J)، و(E) تبعاً للأسماء الإلهية (كما يفعل النقَّاد) يعني الفشل في إدراك الغرض الشعري لهذا التناوب للأسماء وانتهاك للجناس الشعري الواضح في «أساف» و«يوساف». (Archer, SOTI,122-123)
4 (د) يربط جوردون بين الأسلوب العبري وبين الأساليب الشرقية القديمة الأخرى
إن التكرارات مع التنوع تعد واحدة من الخلفيات الشائعة التي على أساسها يتم افتراض اختلاف أصل التأليف في الكتاب المقدس، ولكن هذا التكرار يتطابق مع آداب الشرق الأدنى القديم كالبابليين وكتابات أوجاريت بل وحتى الكتابات الأغريقية. علاوة على ذلك فإن ميول كثير من كتابات الكتاب المقدس تدعو إلى الازدواج والتطابق فيوسف وفيما بعد فرعون، كلا منهما كان لديه أحلام نبوية بها ازدواجية. وفي يونان، غمّ النبي يونان يتم وصفه علي مستويين، كلاً منهما مصحوبة بسؤال الله: «هل اغتظت بالصواب؟» في عددي (4و9). فهل يعقل أن يصرّ أي شخص أن مثل هذا الازدواج يجيء من قلمين مختلفين؟. (Gordon, HCFF, 132)
5(د) عدم ثبات النقَّاد
يشير أليس أيضاً إلى عدم ثبات أو تقلب النقَّاد، في عدم تحديد ما يمكن أن يكون تكراراً فيما يتعلق بموسى وموت هارون: (ثمة ثلاثة بيانات موجودة في سفر العدد تتعلق بموت موسى وهرون). (1) (عدد 20:24) يعلن أن هرون سيموت لأن موسى وهرون عصيا الله، ولكنه لم يقل أي شيء عن موت موسى. (2) (عدد 26:13) يقول إن موسى سوف يموت كما مات هرون ولنفس السبب، (3) (عدد 31:2) يعلن أن موسى سوف يموت لكنه لا يقدم أسباباً بأي شكل. وسيكون من اليسير أن نؤكد أن الفقرة الأولى تنتمي إلى مصدر يعرف فقط أن موت هرون هو عقاب على عصيانهما المشترك، والفقرة الثالثة تنتمي لمصدر علم بموت موسى ولكن لم يعرف السبب، الذي أدى لذلك عدا أن مهمته قد انتهت على الأرض. ولكن جميعها نسبت إلى المصدر الكهنوتي (P). وهذا بوجه خاص جدير بالملاحظة لأن النقَّاد يستشهدون بأن سفر العدد (13-14) يتضمن حقيقة أن 13:30 و14: 24 لا تذكر يشوع مع كالب، بينما 14:6 و39 تذكره ولذلك فهم ينسبون هذه الفقرات إلى مصدر يهوي إلوهيمي (JE) وكهنوتي (P) إلى حد ما» (Allis, FBM,94).
2(أ) التناقضات المزعومة
1 (ب) مقدمة
بعد قراءة عرضية للنصّ، يبدو أن هناك بعض التناقضات فيما يتعلق بالمصطلحات والجغرافية والتشريع والعادات والأخلاقيات وغيرها.
2(ب) الافتراض الوثائقي
الحقيقة، إن هذه التناقضات حقيقية. وهذا دليل إضافي على وجود مؤلفين مختلفين من خلفيات مختلفة يكتبون في أزمنة مختلفة. وبدلاً من محاولة تصحيح الأخطاء عن طريق تقرير أيها هو الصحيح ورفض الآخر، قام المنقِّحون بدمج الروايتين في داخل السفر.
3(ب) الإجابة الأساسية
بعد تحليل دقيق للنصّ وللغة العبرية والخلفية الثقافية للشرق القديم التي عاش فيها الإسرائيليون، يجد المرء أن هذه التناقضات المزعومة يمكن أن تتواءم بصورة منصفة كما قد تختفي من أساسها في حالات كثيرة.
هذا الاكتشاف يعرفه النقَّاد دون أن يفصحوا عنه، كما يقول رافين بملاحظة حادة: «إن الإقرار بوجود منقِّح نهائي، أمر ضروري جداً لتأكيد هذه التناقضات اللدودة في التوراة. فإن رجل يمتلك مثل هذه القدرة الفذة كان سيرى التناقضات لو كانت واضحة كما يقولون وكان سيزيلها». (Raven, OTI,127)
1(جـ) الأسماء
في الإشارة إلى وجود عدة مؤلفين يتمسك النقَّاد بوجود أسماء مختلفة لنفس الشخص أو نفس المكان (انظر Driver, BG, 13, Bentzen, IT, 47, Eissfeldt, OTI, 182-88)
أمثلة:
(1) الأموري استخدمت في تك 10:16 وتث 2: 24 ولكن جاء بدلاً منها الكنعاني في تك 10:18 وتث 1:7.
(2) حوريب استخدمت في خر 33:6 و17:6 ولكن جاء بدلاً منها سيناء في خر 34:2 و16:1 .
(3) ثيرون تستخدم في خر 3:1، 4:18، ولكن يجيء بدلاً منها رعوئيل في تك 36:17، وخر 2: 18 .
يقدم ر.ك. هاريسون بديلاً جديراً أكثر بالتصديق كما يمكن إثباته، ويوضِّح أن هذا المعيار يتضمن تجاهلاً تاماً لمصدرها الوحيد المتاح للإثبات الموضوعي - الدليل من الشرق الأدنى القديم. ثمة مئات من الأسماء الشخصية المختلفة مثل (سبيك - خو) هو قائد عسكري يشار إليه أيضاً باسم (دچا) (Harrison, IT, 521).
كما أمدنا كيتشن بالكثير من الأمثلة النافعة:
في مصر يوجد الكثيرون لديهم أسماء مزدوجة مثل إسرائيل/ يعقوب أو ثيرون/رعوئيل في العهد القديم، مثل (سبيك - خو) الذي يطلق عليه (دجا)، الذي توجد نقوشه التذكارية في متحف جامعة مانشستر ويقدم نموذجاً لاستخدام 3 أسماء لأحد الشعوب الفلسطينية، منتيو - ستيت (بدو أسيويون) وتينو (سوريون) و«أمو» (أسيويون) تماماً مثل (الإسماعليون/ المديانيون) أو الكنعانيون/ الآموريون في العهد القديم.
بالنسبة لأسماء الأماكن مثل (سينا/ حوريب)، بالمقارنة نص «النقوش الإسرائيلية» لمرنبتاح يوجد اسمان لمصر وهما (كميت وتامري) وخمسة أسماء بتسميات مختلفة لمدينة ممفيس (منيفر، إنب -هيدج)، (إنبو، إنب - هيكا، حاتكوب - تاه). ويمكن إيجاد أمثلة مشابهة في أماكن أخرى. (Kitchen, AOOT, 123-24)
الروايتان المزعومتان لموت هرون على جبل هور (عد 20:22، 21:4، 10:6) تمدنا بمثال جيد لنظرية الوثائق المتعددة، أو هذا ما يقوله النقَّاد، ولكن بنظرة تدقيق متأنية للفقرات سوف يظهر لنا أنه في الحقيقة لا يوجد أي تناقض ومن ثم فلا يوجد أي أساس للاستنتاج القائم على تعدد المصادر، فكلمة «موسير» في (تث 10:6) تعني «تأديب» أو «عقاب»، وهي تصف ملابسات حادث موت هرون، وليس المكان الذي مات فيه. وهذا يوضِّح أكثر أن موته على جبل هور كان تأديباً أو عقاباً على خطيته في مريبة (عدد 20:24، تث 32: 51). لقد نال نفس العقاب الذي ناله موسى عند عقابه: إنهما لم يدخلا أرض الميعاد. وهكذا يتضح أن الروايتين متلائمتين وتقدمان حقيقة أن هرون مات على جبل هور عندما كان الشعب يعسكر تحت الجبل. وقد سجَّل موسى هذا الحادث الحزين بأن أطلق على موقع المعسكر اسم هو «موسير» (عدد 33:31، تث 10:6). (Harrison, IT, 510-11)
2(ج) التشريع
اعتاد النقَّاد على التمسك بأن بعض الشرائع الموجودة في أسفار التوراة متعارضة وهناك شرائع أخرى تكررت تكراراً متطابقاً، فيشير هاهن إلى «أن النظرية التي تقوم على وجود مجموعات منفصلة من تنظيمات وقوانين العبادة قد أنشئت في أماكن العبادة المحلية تزيد من احتمالية أن النسخ والتكرار وكذا التناقضات في الشرائع التوراتية ربما يرجع إلى وجود مراحل مستقلة ومتوازية من التطور بدلاً من المحطات المتتالية في تاريخ الشريعة». (Hahn, OTMR,32)
هذه الاختلافات والتكرارات في بعض مواد التشريع دائماً ما يتمّ استغلالها كدليل على التأليف المركب، طالما أن المؤلف الواحد من الصعب أن يقع في مثل هذا التناقض الواضح. لكن هاريسون يقدم حلاً معقولاً:
حيث أنه من المحتمل جداً في الفترة التي أعقبت وفاة موسى أنه قد تمَّ تعديل وتبديل بعض التشريعات بشكل ما لتناسب الظروف المتغيرة وهي عملية مشروعة تماماً في أي ثقافة، والتي لا تبطل إطلاقاً مصدر التشريع الأصلي. فبلا شك أن بعض التكرارات والتناقضات في شريعة التوراة والتي تحدَّث عنها هاهن لم تكن نتيجة لصعود تنظيمات منفصلة ومتوازية للعبادة كما يفترض هو وكثير من الكتَّاب الليبراليين، ولكنها من جراء المحاولة المتعمدة من جانب المؤلفين المسئولين سواء كانوا كهنة أم غيرهم، لتكييف التشريع التقليدي حتى يتلاءم مع الظروف الجديدة للحياة بشكل مناسب، وهذا بلاشك يشكل أساس الموقف الذي فيه المادة الموجودة في (عدد 26:52-56) التي ترتبط بتراث قد تمَّ تعديله بسبب الظروف المفصَّلة في (عدد 27:1-11 وعدد 36:1-9) أو حيث حدث تغيير في تنظيمات التقدمة لستر خطايا الجهل أو الإهمال (لا 4:2-21) وحلَّ محلها المواد الموجودة في (عدد 15:22-29). ومرة ثانية من المهم أن نلاحظ شهادة النصّ لحقيقة أنه قد حدث بعض الإضافات فيما بعد لكتاب العهد في زمن يشوع (يشوع 24:26). (Harrison, IT, 539-40)
3(ج) العادات
يستشهد النقد السلبي في فحصه لعادات تسمية الأطفال كدليل على تعددية الكتابات أو الوثائق. فهم يقولون إن في المصدر الكهنوتي (P) يقوم الأب بتسمية الأطفال، بينما تحظى الأم بهذا الامتياز في المصدر اليهودي (J)، الإلوهيمي (E). ومن ثم يصلون إلى استنتاج أن كل من هذه الوثائق قد تمَّ انشاؤها في بيئات مختلفة.
وبالنظر إلى الحالات في المصدر اليهوي والإلوهيمي، يجد المرء أن هناك 19 أو 20 مثالاً يؤكد هذا الحكم، ولكن ثمة أيضاً 14 استثناء. هذا الرقم من الاستثناءات كاف لإثارة الشكوك، خاصة أن كل حادث متصل بيعقوب يحسب بأنه مثال منفرد. وهذا يضعف من مصداقية هذه الدعوى، خاصة في ضوء حقيقة أن حادثتين من هذه الحوادث تصنَّف بأنها من المصدر الكهنوتي، وذلك ببساطة لأن فيها يقوم الأب بتسمية الابن. وهناك مثل ثالث غير واضح فيه إذا كان الأب قد أطلق الاسم على الابن أم لا، مما يترك لنا مثلاً واحداً، وهذا شيء لا يمكن أن نقيم عليه فرضية.
تخبرنا التوراة عن السبب وراء وجود اختلافات في تسمية الأطفال، فقد كانت عادة سبب تسمية الطفل له علاقة بمعنى الاسم ويرتبط بظروف هذا الميلاد، وعندما تتعلق الظروف بالأب كان يقوم هو بالتسمية. وهكذا الحال مع الأم، هذه القاعدة تتسم بالبساطة وكذا المنطقية، وهي تصلح على كل الحالات. وعندما تنطبق الظروف على الابن فقط أو في الحالات النادرة التي قدم فيها تفسيراً وتوضيحاً لسبب التسمية، لا تنطبق هذه القاعدة، في هذه الحالات يترك الأمر للأب أو الأم أو بطريقة أخرى غير محددة. (Cassuto, DH,66)
4(ج) الأخلاقيات
قيل إن التقليد اليهوي والإلوهيمي لديهما خلل أو عيب في حاستهم الخلقية، بينما يتميز التقليد الكهنوتي باليقظة والحساسية. والدليل على ذلك يُستشهد به من القصة التي فيها خدع يعقوب أبيه إسحق لكي يعطيه بركة عيسو. هنا السمة الأخلاقية لهذه القصة يجب أن يحكم عليها من خلال الاتجاه الذي اتخذه النصّ تجاه هذا الانتهاك. وفي الروايات التي بهذه الكيفية من الضروري جداً إدراك أن النصّ لا يعبر عن حكمه بصورة واضحة وذاتية، ولكنه يسرد القصة بموضوعية، ويترك للقاريء أن يتعلم القيمة الأخلاقية من طريقة تطور الأحداث.
حقيقة أن يعقوب ورفقة ارتكبا خطية بخديعتهما لإسحق. ولكن ماذا حصدا بناءً على ذلك؟ تعرَّض يعقوب لخديعة لابان بنفس طريقة خديعته لأبيه. ويوضِّح الوحي المقدس أن يعقوب خُدِع وتزوج من الزوجة الخطأ ليئة كعقاب له.
رفقة أيضاً حصدت حزناً وغماً، إذ كان عليها أن تطلق ابنها الذي تحبه جدا.ً فمرة طلبت منه أن يطيعها في المؤامرة الخادعة، ومرة ثانية كان عليها أن تطلب منه أن يطيعها بالرحيل. ومن ثم، يتضح أن التوراة حافظت على القيم الأخلاقية. ومرة ثانية يتضح أن تقسيم المصادر نظرية ليس لها أساس.
يخلو التقليد الكهنوتي من فقرة واحدة تتطلب فحصاً دقيقاً لكي نستخرج قيمتها الأخلاقية. كما أن صمت (P) المطبَّق بشأن خطايا الآباء، لا يستلزم اختلاف المصادر لأنه يكفي أن نلاحظ أنه لا يوجد سوى روايتين فقط تتعلق بالآباء تنسب إلى المصدر الكهنوتي (مغارة المكفيلة والختان). من جهة أخرى، يعج المصدر الكهنوتي بالتقارير الجامدة، والتقييمات الزمنية والسلالات. وحتماً تكون نقطة الأخلاقيات عديمة المعنى عندما يتم تطبيقها على مادة بلا محتوى تعليمي وبلا روايات وثيقة الصلة بالأخلاق. (Cassuto, DH,63-65)
3(أ) المفارقات التاريخية - كلمات متأخرة
1(ب) مقدمة
ثمة بعض الكلمات استخدمت في التوراة يبدو أنها تنحدر من فترة زمنية متأخرة. وهناك أيضاً كلمات استخدمت مرات قليلة في العهد القديم ثم عادت للظهور فقط في كتابات يهودية أخرى بعدها بسنين طويلة.
2(ب) الافتراض الوثائقي
إن حدوث مثل هذه الكلمات التي تنطوي على مفارقة تاريخية أي أنها لم تحدث في وقتها المناسب، تظهر أن التوراة كتبت في وقت متأخر جداً عن زمن موسى.
3(ب) الإجابة الأساسية
بعض هذه الكلمات يمكن أن تعزو إلى تعليقات من الكتبة المتأخرين. والبعض الآخر في الحقيقة كلمات مبكرة وليست متأخرة، ويبقى بعضها الآخير من الصعب تحديد إذا ما كانت كلمات مبكرة أم متأخرة.
1(ج) تعليقات الكتبة
تُوجد بعض الأمثلة لكلمات يرى النقَّاد الراديكاليون أنها أتت بلاشك من فترة تاريخية لاحقة ومتأخرة جداً عن عصر موسى.
1- الفلسطينيون (خر 13:17)
2- دان (تك 14:14، تث 34:1)
3- يطلق على كنعان «أرض العبرانيين» (تك 40:15) انظر (Driver, BG, 15, Rowley, GOT,17)
يقترح هاريسون أن مثل هذه المفارقات التاريخية المفترضة ربما تكون عبارة عن مراجعات متتالية من الكتبة قامت بتحديث النصّ في بعض المناطق.
وأمثلة أخرى بما فيها وصف موسى بأنه نبي إسرائيل (تث 34:10)، وكذلك تعليقات الكتبة المتنوع التي تعطي أشكالاً متأخرة لأسماء قديمة (تك 14: 8 و15 و17، 17:14، 23:2، 35:6). ويزعم ويزر أن الإشارة إلى الملك في (تث 17:14) هي مفارقة تاريخية، ولكن هذا يظهر افتقاراً وعجزاً عن الملاحظة، لأن الفقرة تتنبأ بأحداث سوف تحدث فيما بعد، ولا تسجل الموقف الحاضر. (Harrison, IT,524)
ويستمر هاريسون: «بالموازاة مع تنقيحات الهجاء وتضمين التعليقات على النصّ، كثيراً ما كان الكتبة الأقدمون يستبدلون اسماً مبكراً صحيحاً بشكله المتأخر (الحديث). هذه الظاهرة المتأخرة ربما تزيل أي ارتباك لمثل هذه المفارقات التاريخية الظاهرة كتلك التي ذكرت في التوراة عن «طريق أرض الفلسطينيين» (خر 13:17)، في الوقت الذي لم يكن الفلسطينيون قد سكنوا منطقة الساحل الفلسطيني. (Harrison, IT, 523)
2(ج) الكلمات النادرة
يعيد أرشر صياغة مجادلات النقَّاد بشأن الكلمات لو أن حدوث الكلمة أقل من 3 أو 4 مرات في العهد القديم ثم يتكرر في كتابات عبرية متأخرة (التلمود والمدراش)، عندها تكون الكلمة لها أصل متأخر، وأن عبارات العهد القديم لابد أنها كانت من تأليف متأخر (حديث) (Archer, SOTI, 125)
هذا هو التفسير الثابت الذي قدَّمه علماء العهد القديم، بيد أن هناك ثلاثة تفسيرات قابلة للتطبيق.
1- كما ذكرنا من قبل أن الحادث المبكر قد أُدخل فعلياً إلى متن أو سياق الكتابة التي لها مصدر متأخر.
2- أن الحادث المبكر يقدم دليلاً على أن الكلمة كانت شائعة الاستخدام في الأوقات المبكرة أكثر.
3- إذا كانت الكلمة «متأخرة» حقيقة، فهذا يبرهن أن الكلمة نفسها قد أُنشئت في النصّ (كأن تكون قد حلَّت محل كلمة مهجورة أو كريهة أو مبهمة)، وليس لها أي معنى أو مغزى في زمن كتابة متن الكتابة.
وبينما ينكر معظم العلماء المبدأين الأخيرين، ربما يمكن إثبات قابلية هذه البراهين عن طريق فحص الكتابات الموجودة من الشرق القديم التي تمَّ تحديد تاريخها بموضوعية.
مثال على المبدأ الثاني يقدم نفسه في الظاهرة الشهيرة لتجزيء الكلمات في نصوص الأهرامات المدفونة سنة 2400 ق.م. إذ اختفت كلمة تماماً، حتى وجدت فقط بعدها بواحد وعشرين قرناً (حوالي 300-330 ق.م) في كتابات الفترة الإغريقية - الرومانية. إن ضغط وإيجاز ألفي عام من التاريخ المصري إلى فترة مكوَّنة من قرنين ونصف هو بلاشك أمر سخيف. كما أن التطبيق الإجمالي لهذا المعيار يقود العلماء إلى مثل هذه السخافات مع الكتابات العبرية. (Kitchen, AOOT,141-12)
وبالمثل، فإن (سيراخ 50:3) التي تؤرخ بالقرن الثاني قبل الميلاد، تقدم الظهور الأول لكلمة Swh (مستودع) تؤدي إلى استنتاج أن هذه كلمة متأخرة. ولكن المفاجأة الأكثر حداثة كشفت أن نفس الكلمة موجودة على حجر MOABITE أضاف 7 قرون جديدة إلى عمرها. (Archer, SOTI, 126-27)
واحدة من الأمثلة العديدة للمبدأ الثالث يمكن رؤيته في نصوص أشمون التي تحكي قصة سنوح، والتي تؤرخ بدقة بالقرن الثاني عشر قبل الميلاد طبقاً للبيانات الداخلية، بينما ظهور كلمة Yam أي «بحر» والكلمة المصرية المتأخرة BW أي «لا» وهي تؤرخ بـ 1500 ق.م. طبقاً للمبدأ (1) ثمة مخطوطات من حوالي 1800 ق.م تمدنا بالإجابة أن الكلمتين قد حلَّتا محل أشكال مبكرة. والاكتشافات المستقبلية لكل مخطوطة للعهد القديم ربما تظهر نفس الحقيقة الموجودة في الوحي المقدس العبري. (Kitchen, AOOT, 141-43)
بالإضافة إلى ذلك فإن العهد القديم يقدِّم فقط صورة ظاهرة للإنتاج الأدبي العبري بأكمله. فهناك 3 آلاف كلمة في العهد القديم تظهر أقل من 6 مرات، و1500 كلمة لم تظهر سوى مرة واحدة فقط. وبالتأكيد فإن زيادة المعرفة بالأدب والمحادثة العبرية سوف يعرِّفنا بالكثير من هذه الكلمات بأنها كانت ألفاظاً شائعة ومتداولة بكثرة. (Archer, SOTI, 126-27).
أجرى روبرت ديك ويلسون دراسة متميزة بشأن الكلمات التي تمَّ استخدامها 5 مرات أو أقل في العهد القديم. وأظهر أن جزءاً كبيراً من الكلمات التي تستخدم كدليل - من قِبَل النقَّاد - على التاريخ المتأخر للوثيقة التي تحتوي عليهم. لا يمكن إثبات أنها متأخرة في حد ذاتها. وذلك لأن أولاً: لا يمكن لأحد أن يجزم أنه بسبب عدم ظهور الكلمة إلا في وثيقة متأخرة أن ذلك يعني أن الكلمة نفسها متأخرة، لأنه في هذه الحالة إذا كانت الوثيقة المتأخرة هي الوحيدة التي ظلت محفوظة من أحد الكتابات الشهيرة فإن ذلك سيعني أن كل كلمة في هذه الوثيقة ستكون متأخرة، وهذا بالطبع سخيف ومنافٍ للعقل. ثانياً: كذا لا يمكن لأحد أن يجزم بأن وثيقة واحدة متأخرة لأنها تتضمن كلمات لم تظهر في الوثائق المبكرة التي وصلت إلينا ونعرفها. إذ أن كل اكتشاف جديد في البرديات المصرية المكتوبة باللغة الآرامية تعطينا كلمات لم نكن نعرفها من قبل، فيما عدا تلك الوثائق التي كتبت متأخرة بمئات السنين. ثالثاً: لا يمكن أن نعتبر كلمة دليلاً على تأخر وقت كتابة وثيقة وجدت فيها الكلمة، ببساطة لأنها ظهرت ثانية في وثيقة معروفة بأنها متأخرة مثل الأجزاء العبرية في التلمود. وحتى الآن، فهذا كثيراً ما يؤكده النقَّاد.. فمن الواضح أن هذا النوع البرهان سيبرهن في النهاية على أن كل شيء تقريباً مكتوب في زمن متأخر، أما الأجزاء المعروفة بأنها متأخرة ستكون مبكرة. هو برهان سخيف وغير مقبول كدليل في الحالات المصممة لتبرهن أن بعض الوثائق متأخرة عن غيرها لأنها تحتوي على كلمات من هذا النوع. لأنه من المؤكد أنه إذا الجميع متأخر فلا يوجد أي كلمة مبكرة، وهي نتيجة سوف تهدم موقف كل النقَّاد الراديكاليين منهم كما المحافظين، وحيث أن هذه النتيجة غير مستحبة ولا مدافع عنها من قِبَل أي ناقد، لذا يجب أن يتم نبذها باعتبارها سخفاً.
بإيجاز، إن هذه الكلمات موجودة في كل الأسفار وتقريباً في كل جزء من كل سفر من العهد القديم ألحقناها بالجدول التالي، هذه الجدول يقوم على ترتيب (فهرس) خاص بكل سفر ولكل جزء من كل سفر في العهد القديم، أعدها مؤلف هذه المقالة، وطبقاً لقوانين الشهادة: أن «الشاهد يجب أن يقدم برهاناً من الحقائق» وأن الخبير له أن يقدم حقائق عامة من ثمرة المعرفة العلمية، وأن الخبير له أيضاً أن يعطي قدراً من الخبرات (وبالتالي، أيضاً من الأبحاث) التي أجراها بهدف صياغة رأيه وبرهانه، لأنها قد تضيف قوة ووضوحاً للشهادة التي سوف يقدمها، إذا قُدم تقرير بالطريقة التي جُمعت بها الحقائق التي اعتمدت عليها الجداول. ولقد قضى صيفاً بأكمله أمام الفهرس الأبجدي العبري لتجميع كل الكلمات في العهد القديم التي ظهرت 5 مرات أو أقل، وكذلك توضيح الأماكن التي ظهرت فيها الكلمات. كما قضى صيفاً آخر لعمل فهرس خاص لكل سفر من خلال هذا الفهرس العام. وفي الصيف الثالث تمّ إنجاز فهرس خاص بالتقاليد الخمسة J,E,D,H,P لكل من الأسفار الخمسة للتوراة، وكذلك لكل المزامير، ولكل أجزاء الأمثال وللأجزاء المزعومة من أسفار إشعياء وميخا، وزكريا، وأخبار الأيام، وعزرا ونحميا، ولأجزاء خاصة مثل تك 14 والقصائد الموجودة في تك 49، وخر 15، وتث 32 و33 وقضاة 5، ثم كل من هذه الكلمات من النوع الذي نجده في الكتابات الآرامية والعبرية واليهودية لمرحلة ما بعد فترة كتابة العهد القديم. والدليل الذي أنهت إليه الحقائق التي تم جمعها واضحاً، جلياً ونحن نعتقد أنه حاسم.
ودراسة هذه النِسَب ينبغي أن تقنع الجميع أن وجود هذه الكلمات في أي وثيقة لا يُعدُّ برهاناً على حداثتها أو تأخرها نسبياً.
في توضيح هذه الجداول يمكن القول إنها أُعدَّت بمرجعية خاصة للتحليل النقدي للعهد القديم. ومن ثم تمَّ ترتيب أسفار التوراة تبعاً للوثائق J,E,D,H,P كما قُسِّمت الأمثال إلى 7 أجزاء: العمود الأول من الجداول المخصص لكل سفر أو جزء من السفر يقدم عدد الكلمات التي ظهرت 5 مرات أو أقل في العهد القديم التي وجدت فيه، والعمود الثاني يمدنا بالنسبة المئوية لهذه الكلمات الموجودة بنفس الشكل في التلمود العبري.
إن القراءة المتأنية لهذا الجدول سوف يثبت صدق البيان الذي تمَّ ذكره من قبل والقائل: بأن «نوع البرهان الذي يبرهن على أن كل شيء تقريباً مكتوب في زمن متأخر، والأجزاء الخاصة التي تعتبر متأخرة ستكون مبكرة. هو برهان سخيف وغير مقبول كدليل في الحالات المصممة لتبرهن أن بعض الوثائق متأخرة عن غيرها لأنها تحتوي على كلمات من هذا النوع. لأنها سوف تبرهن ببساطة على أن كل وثائق الكتاب المقدس تقريباً مكتوبة في زمن متأخر. إذا اعترف بها باعتبارها أداة فعالة وصحيحة، فسوف تعمل ضد وجهات نظر النقاد الراديكاليين تماماً كما هي ضد هؤلاء النقَّاد المحافظين.
خذ على سبيل المثال الكلمات التي ظهرت في الوثائق المزعومة لأسفار التوراة. فالوثائق J وE معاً بها 281 كلمة في حوالي 2170 آية (بمعدل كلمة واحدة في أقل من 707 أية) وحوالي 46% من هذه الكلمات موجودة في التلمود. التقليد التثنوي (D) لديه 154 كلمة في حوالي ألف آية (أو كلمة في كل 6.5 آية) وحوالي 53% في التلمود. والتقليد PH (الكهنوتي والمقدَّس) لدية 201 كلمة في 2340 آية (أو كلمة كل 8.6 أية) و 52% من هذه الكلمات في التلمود. بالتأكيد لا يوجد حكم عادل على الكتابات. والأدب سيحاول أن يثبت تواريخ الوثائق على مثل هذه الاختلافات الطفيفة كتلك التي في كلمة واحدة بين 6.5 إلى 8.6 آية ومن 46% إلى 53% في التلمود! بالإضافة إلى ما يتعلق بالاتساق النسبي في الآيات، النظام هو PH، وJE، D، في النسبة المئوية من التلمود هي JE، PH، D، ولكن تبعاً لرأى أحد النقَّاد يجب أن يكون في كل الحالتين JE ثم D ثم PH الاختلافات الطفيفة في كل الحالات تشير إلى وحدة المؤلف وتشابه تواريخ كتابتها. (Wilson, SIOT, 131-36)
3(د) الآراميات
إن السبي البابلي (607-538 ق.م) يسجل بداية تخلِّي اليهود عن اللغة العبرية القديمة لصالح اللغة الآرامية الأكثر شيوعاً.
لذا فإن النقَّاد يتمسكون بأن وجود كلمة آرامية في النصّ الكتابي هو دليل أن الفقرة لها أصل أو منشأ ما بعد السبي، وهم يؤكدون أن الكثير من هذه الكلمات الآرامية تظهر في أسفار التوراة. وهذا يساند نظريتهم عن الأصل المتأخر لمصادر التوراة المكتوبة D,P,E,J إلخ.
لكن آرشر يقدم هذه الأدلة المتعلقة بفقه اللغة التاريخي:
عدد ضخم من الكلمات العبرية التي قاموا بتوثيقها ثم تصنيفها بأنها آراميات أُدخلت إلى العبرية وبفحص أكثر دقة، يكون هناك دعوى قوية في حالة الكلمات العبرية (الأصيلة) أو أيضاً المشتقة من أصل فينيقي أو بابلي أو عربي بدلاً من الآرامية. على سبيل المثال، كثيراً من النقَّاد يزعمون بتهور أن الأسماء العبرية التي تنتهي بـ on هي بالضرورة آرامية لأن النهاية بـ «آن» an شائعة في الآرامية. لكن حقيقة الأمر أن هذه النهاية موجودة أيضاً بمعدلات تكرار معقولة في اللغة البابلية والعربية كما يتطلب الأمر مزيد من البرهان لإثبات عدم وجود أي مثيل في اللغة العبرية مستمد من الفترات الكنعانية. (Archer, SOTI, 129)
ويتوصل العالم اليهودي م. هـ سيجال إلى نتيجة شبيهة: «لقد كانت موضة بين الكتَّاب في هذا الموضوع أن يصفوا بالآرامية أي كلمة عبرية غير متكررة والتي يصدف أن توجد كثيراً أو قليلاً في اللهجات الآرامية. ومعظم الكلمات الآرامية قريبة من العبرية المحلية تماماً كقربها من الآرامية. وكثير من هذه الكلمات موجودة في لغات سامية أخرى». (Segal, GMH,8)
وضع كوتزيه في كتابه «الآراميات في العهد القديم» قائمة بحوالي 350 كلمة من المحتمل أن لها أصل آرامي. وعلى هذا الأساس هناك أكثر من 1500 آية من العهد القديم الموجود بها هذه الكلمات تنسب إلى تاريخ متأخر. غير أن دراسة قام بها ر.د. ويلسون كشفت عن المعلومات التالية:
(أ) 150 كلمة من بين 350 غير موجودة إطلاقاً في اللغة الآرامية.
(ب) 235 من الـ 350 كلمة غير موجودة على الإطلاق في الكتابات الآرامية قبل القرن الثاني ق.م.
(جـ) فقط 40 كلمة من الكلمات التي وجدت مبكراً عن القرن الثاني قبل الميلاد تنفرد بها اللغة الآرامية فقط من بين لغات الشرق الأدنى.
(د) 50 كلمة فقط من القائمة ذات الـ 350 كلمة موجودة في التوراة.
(هـ) أكثر من ثلثي هذه الـ50 كلمة الآرامية الموجودة في التوراة كان يجب استبدالها بكلمات آرامية خالصة لتجعلها واضحة مفهومة في الترجمات الآرامية.
(و) معظم الكلمات التي لم يتم استبدالها في الترجمات الآرامية مازالت لا تنفرد بها اللغة الآرامية بين لغات الشرق الأدنى.
حتى مع استخدام التأريخ الخاص بالنقَّاد الراديكاليين، نجد أن 120 كلمة كاملة من هذه الـ 350 من الكلمات الآرامية المزعومة يستخدمها كتَّاب العهد القديم منذ فترة أكبر بـ 700 سنة قبل أن توجد في أي وثيقة آرامية. وهكذا نجد أنه من السهل أن نفهم أن هذه الكلمات عبرية دخلت إلى اللغة الآرامية أكثر بكثير من أن نعتبرها آرامية قام اليهود بإدخالها. فمن الصعب تصديق أن كتَّاب العهد القديم قد استعاروا كلمات آرامية كثيرة جداً يبدو أنها لم تستخدم عند الآراميين إلا بعد مرور 7 قرون كاملة. (Wilson, SIOT, 155-63)
|