(الاعتقاد بأن الإنسان " إما أنه لا يعرف أو لا يقدر أن يعرف... وفي اللاهوتيات، فإن هذه النظرية تدَّعي أنه لا يمكن للإنسان أن يحصل على المعرفة عن الله") (Trueblood, PR,44)
1(أ) لاأدرية إيمانول كانط
الفيلسوف الألماني الشهير إيمانول كانط ينكر أنه بإمكاننا أن نعرف ما هو الواقع في حد ذاته. وهذا الموقف هو الذي أنشأ اللاأدرية؛ إذا لم يكن في إمكاننا أن نعرف الواقع، لذا فلن نعرف الحقيقة.
ا(ب) محتوى المعرفة يتشكل بواسطة الفكر
لكي نستوعب إنكار إيمانول كانط لمعلومية الحقيقة، يجب أن نتعرف على نظرية المعرفة التي ينتهجها. ويشرح جيري جيل ذلك:
نظرية المعرفة التي يؤمن بها إيمانول كانط، ظهرت أولاً في كتابه المعنون "نقد العقل الخالص" وأساسه هو أن المعرفة تتكون من مظهرين، تحديداً هما «المحتوى والشكل». بالنسبة للتجريبي (وهو ممن يعتمدون على المعرفة الحسية) هو يتمسك بأن محتوى المعرفة يتم التوصل إليه بالخبرة الحسية، لكنه وبتوافق مع المنطقيين يتمسك بأن الشكل (أو محتوى) المعرفة يتمّ التوصل إليه بواسطة العقل. يؤكد كانط أن العقل يلعب دوراً نشطاً في الخبرة المعرفية. لذلك فإن ما يعرف هو خبرة حسية بعد أن صُفِيت- أو نظمت - بواسطة التصنيفات المتضمنة في الإدراك. كل من هذين العنصرين يعتبر ضرورياً، لكن أحدهما بمفرده ليس كافياً لأن تتحقق المعرفة.(Gill,PRK,22)
وبكلمات كانط ذاته: هناك مصدران من مصادر المعرفة الإنسانية (والتي تبرز من مصدر شائع لكنه غير معروف بالنسبة لنا)، تحديداً، الحس والفهم. الأول، يعرفنا الأشياء (من خلال حواسنا) والثاني، من خلال الفكر (الفهم).(Kant, CPR,22)
ويقيِّم كانط الجملة الأخيرة بقوله: لكن، بالرغم أن معارفنا تبدأ أولاً من خلال الخبرة، لكن لا يتبع ذلك أبداً أن تكون هي مصدرها. لآن، على العكس، من الممكن أن تكون خبراتنا التجريبية خليطا مما نتقبله من خلال المؤثرات، ومن تلك التي تمدنا به قدراتنا على التعرف من ذاتها (تأثيرات حسية تعطي فقط السبب)، وهي إضافة لا يمكن لنا أن نميزها من العنصر الرئيسي المعطى من الحواس، إلى أن تجعلنا الممارسات الطويلة معتادين عليها، وماهرين في فصلها. (Kant, CPR,14)
ويجادل كانط بقوله إن التصنيفات التي بها نقوم بعمليات الفهم هي في العقل: الزمان والمكان معا، بالإضافة إلى كل ما تحتويها، ليسا هم أشياء أو حتى قيم مستقلة في ذاتها، لكنهما ينتميان فقط إلى مظاهر العقل. وحتى هذه النقطة، فإنني مقتنع بأفكار التيار المثالي السابقة ولكن هذا التيار يعتبر المكان مجرد عرض تجريبي لانعرفه سوى من خلال التجربة... أنا، على العكس، أثبت... أن المكان ( وأيضا الزمان )... يلتصق في معقوليتنا كشكل خالص قبل كل تصوُّر أو خبرة. (Kant, PFM,152)
وعن هذه التصنيفات المتضمنة، يقول كانط: إذا كانت الفكرة الخالصة للإدراك لا تشير إلى أشياء نصل إليها بالخبرة لكن للأشياء في حد ذاتها، فإنها لا تحتوي على أي تحديد مهما كان أمره. إنها تفيد، وكما كانت، فقط لكي تكشف محتوى المظاهر، أن نكون قادرين أن نقرأها كخبرات. المباديء التي تبرز من مرجعياتها إلى العالم المحسوس، فقط تخدم فهمنا إلى الاستخدام التجريبي. بعيدا عن ذلك هي ليست سوى تنويعات افتراضية، بدون واقعية موضوعية، ولا يمكن لنا سواء أن ندري بإمكانية استقلالية التجربة، أو أن نؤكد مرجعيتها للأشياء. (Kant, PFM,72.73)
يوضِّح كانط أن العقل ليس كافياً وحده ليعرف الواقع: «العقل والمنطق بكل مبادئه الخاصة باستقلالية الخبرة لا يعلمنا أبداً أي شيء أكثر من الخبرات الممكنة، و حتى بالنسبة لتلك لا شيء أكثر يمكن أن ندري به بخبراتنا... العقل لا... يعلمنا أي شيء يختص بالأشياء في حد ذاتها». (Kant, PFM,134)
يقول كانط: في الحقيقة، يجب أن يتطابق الواقع مع العقل وإلا ما عرفناه. يجب على العقل أن يتقارب من الطبيعة من وجهة نظر نتلِّقى المعلومات منه، ليس بشخصية الطالب، الذي يستمع لكل ما يختاره أستاذه، لكن بشخصية القاضي ، الذي يجبر الشهود للإجابة عن الأسئلة التي يرى أنه من المناسب له أن يقترحها.
ويعلن كانط أن: الفهم لا يشتق قوانينه من استقلالية الخبرة، لكنه يفرضها على الطبيعة. (Kant, PFM,82)
يدعي كانط أنه وجد أكثر المعايير المحددة للحقيقة من خلال أشكال استقلالية الخبرة: «لأن الحقيقة تستند على القوانين الكونية والضرورية مثل المعايير، الخبرات. وطبقاً للفلسفة المثالية لا يمكن أن نحصل على أي معيار للحقيقة، لأن ظواهرها... ليس لها شأن بمحتوى الاستقلال التجريبي في أساساتها؛ ويتبع ذلك أنها تكون محض خيالات؛ فإن المكان والزمان (بالارتباط مع الفكرة العامة الخالصة للتفهم) تصف قوانينها لكل خبرة مستقلة ممكنة، وفي نفس الوقت تمكِّن الميزان المعين لتمييز الحقيقة بدلاً من الانغماس في التخيلات التي في داخلها». (Kant, PFM,152)
ويستنتج كانط أن الأشياء كأغراض لخبراتنا التي تختص بأحاسيسنا توجد خارجنا. هذه نحصل عليها، لكن لا ندري شيئًا عن كيانها في ذاتها، نعلم فقط مظاهرها، مثلا: الحضور الذي ندركه من خلال تأثيرها على حواسنا.
مرة أخرى يذكر كانط بشكل صريح أن الأحاسيس لا تمكّننا أبداً -وبأي كيفية- أن نعرف الأشياء في حقيقتها.
ويلخص مورتمر أدلر: بالنسبة لكانط فإن الأشياء المستقلة عن أذهاننا هي، وبكلماته - الأشياء في ذاتها التي هي في جوهرها غير قابلة للتعرف عليها. هذا معادل في القول إن الحقيقي لا يُعرف، والمعرَّف مثالي بمعنى إنها تتكون من الأفكار التي تجلبها أذهاننا إليها لتصنع شكلها كما هو.(Adler, TPM,100)
2(ب) هناك فجوة لا يمكن عبورها بين معارفنا والواقع المعاش
الإبستمولوجي (نظرية المعرفة) التي ينتهجها "كانط" ترسم حدودًا لمعارفنا، والواقع هو خارج هذه الحدود.
طبقاً لكانط، العقل يبحث عن الحقيقة: لكن هذا المجال ليس سوى جزيرة مغلَّفة بالطبيعة ذاتها بحدود لا تتغير... محاطة بمحيط واسع وعاصف، حيث نجد منطقة التخُّيل، غارقة في الضباب، والجبال الثلجية، كل هذا يبدو للبحار، في رحلته للكشف، عن قارة جديدة، وبينما تخدعه باستمرار الآمال المستغرقة، وتشغله بمغامرات خطيرة، لا يمكن له أبداً أن يكفّ عنها، ومع ذلك لا يستطيع أبداً أن يصل إلى نهايتها. (Kant, CPR,93)
نحن لا نستطيع أن نعثر على الحقيقة، طبقاً لتعريفات كانط، وبذلك لا يمكن لنا أن نعرف الواقع:
لأننا سوف نصل حتماً للنتيجة التي تقول بأن ملكاتنا أو قدراتنا التي تمكننا من المعرفة غير قادرة على تجاوز حدود الخبرات الممكنة؛ لكن مع ذلك، فإن هذا هو أكثر الأغراض أهمية لهذا العلم. تقدير تعرُّفنا المنطقي لاستقلالية الخبرة التي يمكن أن نتوصل إليها هو فيما يختصّ بالظواهر، وأن الأشياء في حد ذاتها، عندما تمتلك وجودا حقيقيا، تستقر بعيدا عن مجالها... لا يمكن لنا أبداً أن نتعرف على موضوع ما، كشيء في حد ذاته، لكن كهدف يتكون من بصيرة حسية.(Kant, CPR,8-9)
يسجل كانط أن العقل لا يرضى تماماً بمعرفة الحدود عند النقطة التي بعدها لا يمكن أن نعرف الحقيقة، لكن كل ما يمكن أن نعرفه: الحدود التي عليها علامة... وأنها ليست كافية بعدما اكتشفنا أنه ما زال يستقر وراءها شيء ما. (بالرغم أننا لا نعلم ما هو في حقيقته). (Kant, PFM,125)
ويلخص كانط: ما هو في حقيقته ظاهرة، الوردة كمثال، يؤخذ بالفهم التجريبي كشيء في حد ذاته... على العكس... لا شيء نتوصل إليه عن طريق الحدس المكاني هو شيء في حد ذاته... الموضوعات هي في الواقع لن نعرفها في حقيقتها، وما نسميه موضوعات خارجية، ليست سوى عرض لإحساساتنا، والتي تتشكل على هيئة مكان، لكن ارتباطها الحقيقي ، هو بالشيء في ذاته، ولا يعرف باستخدام هذه العروض، ولا يمكن أبداً أن يحدث هذا. (Kant, CPR,26)
يستنتج كانط من الإبستمولوچيا الخاصة به أن الميتافيزيقا هو علم متفرد وتخيلي بشكل كامل... أنه يتعامل مع تصورات مجردة... وفيها، العقل والمنطق يستقر عند طالبها فقط. (Kant, CPR,6)
ويوضح ايتين جيلسون أن كانط لا ينكر الواقع لكن يحاصره بالقول إنه غير قابل للتعرُّف عليه: في الحقيقة، كانط ما كان له أبداً أن يتخيل الواقع بهذا الشكل، لكن هو لم ينكره أو يتناساه، لكن هو حدّده، لكي يكون دائماً في حالة تواجد عندما تتاح معارف حقيقية، على أن لا توضع قيوداً على عفوية الفهم الانساني. (Gilson,BSP,127-128)
ويقول نيكولاس ريختر أن الإبستمولوچيا التي ينتهجها كانط تنصب على أن الواقع غير معقول: بالنسبة لكانط، مفهوم شيء محقق ومتحرر من ظروف التصور هو أمر غير معقول كما يحدث مع منظر شيء. ما ينتهجه كانط ينصب على أن الواقع غير معقول: بالنسبة لكانط، تصور شيء محقق ومتحرر من أحوال التصوُّر هو أمر غير معقول كما يحدث مع منظر شيء حر من أي وكل شكل من أشكال الرؤية، وبذلك يعتبر في حالة انفصام عن واحدة من أهم حالات قدرات الرؤية.(Beck, KTK, 176)
3(ب) كبسولة توضح لاأدرية كانط
كان كانط يؤمن بأن هناك فرقاً ما بين العالم الحقيقي والعالم الظاهر. لكي نفهم العالم الظاهر، لدى الإنسان مجموعة من الأشكال المبيتة (مشابه لما نطلق عليه الافتراض المسبق). لا أحد بإمكانه أن يصل إلى البيانات والدالات بدون أشكال (فروض مسبقة). المعرفة، طبقا لكانط، هي المنتج النهائي للعقل (العارف) ويمتلك الصفات الغريزية (القدرة على التنظيم والترتيب) التي تمكِّن طالب المعرفة من أن يتخيلها.
2(أ) الــــرد
1(ب) اللاأدرية تدمر ذاتها
نظرية المعرفة عند كانط قادته إلى اللاأدرية. وهي الدعوة التي تقول بأنه لا يمكن معرفة أي شيء عن الواقع. ويعلِّق على ذلك نورمان جيسلر: «في شكلها غير المحدود، (اللاأدرية) توضح أن كل المعارف التي تختص بالواقع (مثلا، الحقيقة) هي مستحيلة. لكن هذا يقدم لنا كحقيقة تختص بالواقع». ثم يلخص الطبيعة ذاتية- الهدم لهذا الادعاء: «العيب الرئيسي في الموقف الصعب الذي انتهجه كانط هو أن دعوته اللاأدرية تطلبت نوع من المعارف أكد كانط عنه أنه لا يمكن معرفته. بكلمات أخرى، إذا كان الواقع لا يمكن معرفته حقيقة، بالنسبة لأي إنسان، بما في ذلك كانط ذاته، فإنه لن يعرفه أيضا. لاأدرية "كانط" الصعبة تخترق دعواه التي تقول: إنني أعلم أن الواقع لا يمكن معرفته». (Geisler and Bacchino, WSA)
ويقول جيسلر مرة أخرى:
اللاأدرية الكاملة تدمر نفسها: إنها تنخفض إلى مستوى التأكيد (الذي يهدم نفسه) أن الإنسان يعلم أموراً كافية عن الواقع بحيث يمكن له أن يؤكد أن لا شيء يمكن معرفته عن الواقع. هذه الجملة تشتمل في داخلها كل ما يلزم لإنكارها. لأنه إذا علم الانسان شيئاً عن الواقع، لذا هو بالتأكيد لا يمكن له أن يؤكد في نفس الوقت أن كل الواقع غير معلوم. وبالطبع إذا لم يعلم الانسان شيئاً عن الواقع. لذا هو ليس لديه أي أساس مهما كان للنطق بجملة تختص بالواقع. لن يكفي أن يقال إن معارفه عن الواقع هي سلبية بشكل مجرد وكامل، هذا يعني معرفة ما ليس هو في الواقع. لأن لكل افتراض سلبي يؤكد أن هناك ما هو إيجابي؛ لا يمكن للإنسان أن يؤكد بشكل معقول أن شيئاً ما ليس هو في ذاته حتى ولو كان هو بعيداً تماماً عن أي معلومات عن هذا. يتبع ذلك أن اللاأدرية الكاملة ذاتية التدمير لأنها تفترض بعض المعرفة تختص بالواقع لكي تنكر أي معرفة بالواقع.(Geisler, CA,20)
هذه اللاأدرية يتعذر الدفاع عنها: هناك احتمال لإمكان معرفة الواقع. في الحقيقة، كان هذا هو أكثر الفروض إلحاحاً في تاريخ الفلسفة. لقد طارد الناس وما يزالون هذا الواقع، وأي فكر يستبعد هذه الإمكانية ليس فقط ذاتي التدمير لكنه أيضا يجري ضد التيار الرئيسي للمجرى الفلسفي.(Geisler, PR,89)
يستجيب مورتمر أدلر إلى لاأدرية كانط بهذا التساؤل: «وهذا يقود النقَّاد لأن يتوجهوا بهذا السؤال، إذا كان في الإمكان أن نعرف فقط ما يستقر داخل حدود خبرات الحواس كانط، فإن للفرد، الحق في تأكيد أن الأشياء الحقيقية لا توجد في مكان آخر، وكيف له أن يعرف ما هي الحدود المختفية التي ربما لا يغامر الفهم الإنساني في الخروج منها، إلا إذا نجح في العبور منها بنفسه.(Ayer, LTL,34)
يذكر الفيلسوف لودفيج فتجنشتاين: «لكي تكون قادرا على وضع حدود للفكر، يجب علينا حينذاك أن ندرك تماماً طبيعة وماهية جانبي حدود الفكر». (Wittgenstein,TLP,preface)
ويلاحظ ايتين جيلسون أن معرفة كيف أن الشيء في ذاته مماثل لما ليس هو معروف عنه، هذا تناقض واضح في فكر كانط.
ويقول رافي زاكارياس: لاأدرية كانط عن الحقيقة العظمي هي ذاتية- التدمير. فمن غير الممكن وضع أي شيء يخصّ الحقيقة العظمى بدون أن يدري الانسان شيء ما عن الحقيقة العظمى. لنقل، كما عمل كانط، أن الانسان لا يستطيع عبور خط ظواهر الأمور هو في الواقع عبور للخط لكي يمكن أن يقول بذلك. وبكلمات أخرى، ليس ممكنا أن نعرف الفرق بين الظاهر والواقع بدون أن يعرف الإنسان قدراً كافياً عنهما لكي يميز الفرق بينهما. (Zacharias, CMLWG,209)
يلاحظ أ. بريتشارد أن أي معرفة للواقع هي غير متوافقة مع المثالية على وجه العموم:
لكي تفكر في العالم كأنه مستقل عن الذهن، فعلينا أن نفكر فيه كأنه يتكون فقط من ظواهر متتابعة... هذه هي النتيجة التي لا مفر منها بشأن المثالية ولا يلاحظها أحد، طالما أنه من المفترض أن العلاقة الضرورية للوقائع بالنسبة للذهن هو في أن تعرف... إن ميزة هذا الشكل من مثالية "كانط"مشتقة من ذات الحقيقة المثالية لإنكارها على وجه العموم. لأن الاستنتاج أن العالم المادي يتكون من تتابعات هو أمر يتمّ تجنبه عند الأخذ في الحسبان علاقة الوقائع للعقل بواسطة المعرفة، وحينئذ، ومن ثم بدون الوعي بعدم التوافق هذا، يستخدم التواجد المستقل للواقع المعروف. (Pritchard,KTK,122-123)
2(ب) تصنيفات العقل تتوافق مع الواقع؛ والا كانت اللاأدرية لا يمكن التعبير عنها
يحدد الأستاذ جيسلر عدم جدوى صياغة عبارات مطلقة وغير مشروطة تنكر معرفة الواقع:
مجادلة كانط التي تقول بأن معرفة الفكر (مثل الوحدة والسببية) لا تنطبق على الواقع هو أمر لا نجاح فيه، لأنه إذا لم تتوافق تصنيفات الواقع وتتطابق مع العقل فإنه يتعذر التعليق على الواقع، ويشمل ذلك التعليق الذي نطق بها كانط. هذا كأننا نقول: بدون أن يكون العالم الحقيقي واضحاً لما تطابقت معه أي عبارة. إعداد العقل المسبق لمجابهة الواقع يعتبر ضرورياً سواء إذا قال الفرد شيئاً إيجابيًا أو سلبياً بشأنه. نحن لا يمكننا حتى أن نفكر في الواقع الخارج عن نطاق فكرنا. والآن إذا شاء أحدهم أن يؤكد على الحجة التي تقول إن اللاأدريين ليسوا في حاجة إلى تقرير أي شيء عن الواقع لكن عليهم بكل بساطة أن يحددوا الحدود الضرورية لما يمكن أن نعرفه، يمكن حينذاك أن نوضِّح أنه حتى هذه ليست سوى محاولات فاشلة: لأن تقول إن الفرد لا يمكن أن يعرف أكثر بكثير من حدود الظاهرة أو المظهر هو أن تحدد خطاً لا يمكن عبوره لهذه الحدود. لكن لا يستطيع الإنسان أن يرسم مثل تلك الحدود بدون تجاوزها. إنه من المستحيل أن نجاهد في تقرير أن المظهر ينتهي هنا والواقع يبدأ هناك بدون أن يتلامس الفرد على الأقل ببعض المسافة مع الجانب الآخر. وبكلمات أخرى، كيف يمكن للإنسان أن يفرِّق ما بين المظهر والحقيقة إلا إذا عرف مقدماً كليهما لكي يجري هذه المقارنة؟ (Geisler, CA,21)
يتجاوب أ. بريتشارد مع الحجة التي تقول إن الحقيقة هي كما هي عند التعرف عليها:
مع ذلك، فإن الاعتراض الرئيسي لهذا الخط من الفكر هو إنه يعارض لطبيعة المعرفة في حد ذاتها. المعرفة تفترض مقدمًا وبلا أي شرط أن الواقع المعرَّف يوجد بشكل مستقل في واقع المعرفة بها، وإننا نعرفها كما توجد في هذه الاستقلالية. إنه من المستحيل أن نظن بكل بساطة أن أي واقع يعتمد على معرفتنا به، أو على أي معرفة تخصّه. إذا وجد هذا، فيجب أن يكون هناك شيء يجب أن نعرفه. وبكلمات أخرى ، المعرفة ضرورية لاستكشاف ، أو العثور على ما هو متواجد فعلاً. إذا أمكن للواقع أن يكون أو سوف يكون بالنسبة لنشاط معين أو عمليات تختص بالذهن، هذه العمليات أو الأنشطة لن تكون معرفة ولكن هي صنع أو خلق. ويجب أن نعترف في النهاية أن هناك اختلاف واضح بين عمل شيء وبين معرفته. (Pritchard,KTK,118)
يعلن ايتين جيلسون أنه: بعكس مقولة المثاليين، من الممكن أن نعرف ما إذا كانت آراءنا تكون أو لا تكون في توافق مع الأشياء.(Gilson, PSTA,275)
يعلق بول كاروس على المشكلة التي يواجهها اللاأدريون عندما تكون تصنيفات العقل عندهم ليست هي ذاتها تصنيفات الواقع: عندما ينكر كانط أن المكان والزمان هما أمور موضوعية، يصبح بذلك مرتبكاً ومعارضاً لنفسه، لأنه إما أن يقول بأن الزمان والمكان محدودان داخل حدود جسم الموضوع الذي نفكر فيه، وهذا لغو فارغ، أو أنه يجب عليه أن ينسبهم إلى الموضوع كشيء في حد ذاته، وهذا يناقض نظريته ذاتها والتي بموجبها لا يشير فيه للزمان والمكان الخاص بالأشياء في حد ذاتها، لكن للمظاهر فقط.(Carus, EKP, in Kant, PFM,233)
يلاحظ مورتمر أدلر خطأ المثاليين: نجد أن أفلاطون وديكارت، ثم كانط وهيجل بعد ذلك، يذهبون بعيداً في فصلهم ما بين مجالين: الأمر المعقول والأمر الواضح. هذا ناتج من قيامهم بنسبة الاستقلالية لقدرتنا الداخلية على الإدراك مما يجعلها تعمل، في كل الأحوال أو بعضها، مستقلة عن خبرة الحواس.
هذا يقود كل من أفلاطون وديكارت إلى وصم الإدراك بآراء فطرية- آراء لا تشتق بأي حال من خبرة الحواس. علما بأن تصنيفات كانط المتعالية هي نسخة أخرى من نفس الخطأ.
3(ب) ليس ممكنا إثبات الوجود بدون الكشف عن شيء يمس الجوهر (ما هو الأمر في حد ذاته)
هذه المجادلة يمكن أن تسير بالشكل الآتي:
هناك بُعد آخر يهدم نفسه في تصريح كانط بأنه يعرف أن النومينا (العالم الحقيقي في مواجهة العالم الظاهر) هو موجود فعلاً لكن ليس كما هو. فهل في الإمكان أن نعرف ماذا يكون شيئًا ما بدون أن نعرف شيئاً عنه؟... إنه ليس ممكناً أن نؤكد وجود شيء ما بدون أن نعلن في نفس الوقت شيئاً ما عن كينونته. وحتى وصفه كذاته أو حقيقته، وعليك أن تقول شيئاً عنه. أكثر من ذلك، عرفها كانط بأنها المصدر غير المعروف للمظهر الذي نستقبله. كل هذا يعتبر عملاً خبرياً عن الحقيقة: تحديداً، هي الحقيقي، وفي ذاتها هي مصدر الإلهامات التي نستقبلها. وحتى هذا يعتبر شيء أقل من اللاأدرية الكاملة. (Geisler, CA,22)
ويناقش أ. بريشارد أنه طالما أن المعرفة ضرورية للواقع كما هو بعيدا عن أن يعرف، إذن تأكيد أن الوقائع تعتمد على الذهن هو تأكيد من نوع الأشياء التي هي في ذاتها، بعيدا من كونها تعرف. (Pritchard,KTK,121)
يقول ايتين جيلسون: هذا المصدر العام الذي يبزغ منه كل من المعقولية والتفهم، والتي يقول عنها كانط بأنها موجودة، لكن نحن لا نعرف كياناتها، يجب أخيراً أن نبحث فيها ونظهرها للنور. وباختصار، إذا كان لها أن لا تظل كجسم غريب مُدخلة بشكل افتراضي في عالم الفهم الجلي، فإنه إما أن ننكر الوجود بشكل واضح، أو أن تبرز (نتيجة نصل إليها بشكل مستقل عن الخبرة) مثل كل شيء آخر.(Gilson, BSP,132)
ويستمر جيلسون في قوله: هناك وجود كثير جداً في نقد كانط ، أو إنه غير كافي. وهو كثير جداً، لأنه موضوع بشكل متعسف، كما في حالة هيوم؛ وغير كافي، لأنه غير معروف بالكلية أن لا يتواجد منها الكثير العملي في المثالية النقدية لكانط بالمقارنة بالمثالية المطلقة عند باركلي.(Gilson, BSP,134-135)
عند جعل الشكل أمر ذاتي محض، فإن كانط يغير بذلك -بغض النظر عن كل اعتراضاته- كل الآراء، والأفكار، وكل العلم، يغيره إلى خيالات شخصية خالصة. هو أكثر في المثالية بالمقارنة بباركلي . العلم يمكن اعتباره كطريقة موضوعية للتعرف فقط إذا كانت قوانين الشكل عبارة عن ملامح موضوعية من الواقع. (Carus,EKP, in Kant,PFM,210)
ويخلص كاروس من ذلك: إذا كانت الأشياء في حد ذاتها تعني أشياء موضوعية، في مقابل، الأشياء كما هي، مستقلة عن أفكارنا، لذا علينا أن ننكر أن هناك ما هو غير معروف. (Carus,EKP in Kant,FPM,236)
ويناقش رودلف ج. بانداس بأن فكرة الكينونة تتوافق مع الواقع:
ما هي التأكيدات التي في حوزتنا تختص بموضوعية فكرة الكينونة؟ كيف نعلم أنها تتوافق مع الواقع، طالما أنه يتعذر علينا أن نقارنها مع الشيء فوق الذهني في ذاته، والأخير هذا لا يمكن الحصول عليه بشكل عاجل؟ هذه الإشكالية ليست حديثة: لقد ذُكرت ورُفضت ليس فقط بواسطة القديس توما الأكويني، لكن من قبله بواسطة أرسطو. الاتجاهات المميزة للفكر الحديث هو أن يقسِّم ويفصِّل. لكن خطيئتها الكبرى في مجال الإبستمولوجي هو العمل على فصل الهدف المعروف عن الشيء ذاته، ثم أن يشغل نفسه بيأس لكي يغطي الفجوة بين الموضوع والشيء. (Bandas, CPTP,62)
ثم يوضح بانداس أن فكرة الكينونة هي فكرة عالمية:
فكرة الكينونة يمكن استخدامها لكل واقع، سواء كان حقيقياً أو ممكناً، حاضراً أو ماضياً، أو في المستقبل. أنه يطبِّق على كل درجات الواقع... لا يقين ممكن بدون الوجود. أن نفصل أنفسنا عن الوجود سوف يكون انتحاراً فكرياً وأن علينا أن نخرس إلى الأبد. كل من يستخدم الفعل يكون ويصنع تأكيداً- والذي هو أكثر تمسكاً بالعقيدة بالمقارنة- يقبل بالضرورة فلسفة الكينونة بكل نتائجها، وتبعاتها، وفروعها.(Bandasm,CPTP,346)
في قاموس كامبردج للفلسفة، يجادل بانايوت باتشفاروف أنه إذا كان اللاأدري يتكلم عن الجوهر فإنه سوف يواجه نتيجتين غير مرغوب فيهما:
فإذا قبلت الاعتراض (بأنه لا يمكن لنا أن نشكل أي فكرة عن الأشياء الواقعية)، يبدو أن ذلك يوحي بأنه لا يمكن أن نتحصَّل على معرفة الأشياء الواقعية كما هي في ذاتها. إن هذه الحقيقة لا يجب أن تُفهم كتوافق مع هذه الأشياء. لكن هذا له نتائج أكثر من ذلك: (1) إما أن نقبل وجهة النظر العجيبة والغريبة بأنه لا يوجد أشياء واقعية... لأنه بالكاد نصدق بواقعية شيء ما، لكن لا نستطيع أن نكوِّن عنه أي تصوُّر مهما كان؛ أو (2) يجب أن نواجه الحالة الميئوس منها ظاهرياً للتغير العنيف بما نعنيه بالواقع، الفكرة العامة، الخبرات، المعرفة، الحقيقة والكثير غيرها.(Butchvarov,MR,as cited in Audi, CDP,488)
يضيف باتشفاروف: إذا كان مفهومنا عن عالم زماني مكاني مستقل هو بالضرورة حقيقة ذاتية، لذا ليس لدينا سبب وجيه لتأييد أن هناك مثل هذا العالم، وعلى الأخص عندما يبدو أن هناك تناقضاً للنفس عندما نتكلم عن تصوُّر مستقل عن قدراتنا الذهنية.
4(ب) المعرفة عند كانط لا يمكن لها أن تبلغ الواقع لأنها لا تبدأ بالواقع
مما أوضحنا في بداية هذا الفصل، أنه من الخطأ أن نبدأ من خلال الذهن ونتوقع أن نجد طريقاً إلى الواقع.
يسجل ف. باركر أن المكان المناسب للبداية هو الواقع: الوقائع التي تعرف... لا تعتمد على كونها ستعرف، وسواء بالنسبة لطبيعتها أو وجودها؛ المعرفة تعتمد على الوقائع المعروفة.(Parker, PAK, as cited in Houde, PK,48)
يشرح ايتين جيلسون المشكلة التي قد تواجه المثالي الذي يرتكب هذا الخطأ.
أكبر اختلاف ما بين الواقعي والمثالي هو أن المثالي يفكر بينما الواقعي يعرف. بالنسبة للواقعي، لأن يفكر هو أن ينظم بعض المعارف السابقة أو أن يتأمل في بعض محتوياتها. إنه لا يقتنع أبداً أن يفكر في نقطة مغادرة تأملاته، لأن الفكر ممكن بالنسبة له في حالة تواجد بعض المعرفة أولا. ولأن المثالي يتحرك من الفكرة إلى الشيء، فهو غير قادر على اكتشاف ما إذا كانت نقطة البداية تتوافق مع الشيء أم لا. وعندما يُسأل الواقعي كيف يلتحق بالشيء عندما يترك الفكر، يجب على الآخر أن يسرع بالإجابة والقول إن هذا لا يمكن تحقيقه وأن هذا في الحقيقة هو السبب الأساسي لكونه ليس مثالياً. مع ذلك فإن المثالية تبتعد عن المعرفة، هذا كقولنا إنها تبتعد عن عمل من أعمال الإدراك التي تتكون بالضرورة من الإمساك بشيء ما. لذلك، بالنسبة للواقعي، السؤال لا يطرح مشكلة غير قابلة للحل، لكن مشكلة زائفة، وهذا شيء آخر مختلف تماماً. (Gilson,VMYR,as cited in Houde, PK,386)
يتقدم جيلسون بهذا الإنذار لكل من يتجادل مع مثالي:
يجب على الإنسان أن يتذكر دائما أن الاستحالة التي يرغب المثاليون أن يدفعوا إليها الواقعيين هي من أعمال المثالية ذاتها. إنها تتحدانا لمقارنة الشيء المعرف بالشيء ذاته، إنها تظهر فقط الشر الداخلي الذي يأكل في جسدها. لأنه عند العقلاني، لا توجد نومينون (الشيء في ذاته) بالمفهوم الذي يمكن للمثالي أن يتفهمه. إنما تفترض المعرفة مسبقا حضور الشيء نفسه للعقل. وليس هناك حاجة للافتراض، أنه خلف الشيء الذي هو في الفكر، يوجد أمر ثنائي، وغامض وغير معروف، والذي سوف يكون هو الشيء الحقيقي الموجود في الفكر. إن المعرفة لا تعني أن تفهم شيئا مما هو موجود في الفكر. لكن في الفكر، عليك أن تفهم الشيء كما هو في ذاته. (Gilson, VMYR,as cited in Hayde, PK, 388)
5(ب) النتائج المؤكدة لكانط تبطلها الاكتشافات العلمية
يشرح مورتمر أدلر ما الذي فعله كانط
بمفهومه عن استقلالية التجربة (Priori) وأحكامها الملفقة: لقد
منح كانط الفكر البشري أشكال سامية من التعرَّف- الحسي أو
الإلهامات (أشكال المكان والزمان)، وأيضا تصنيفات فائقة
للإدراك. هذا يعني أن العقل يحضِر هذه الأشكال السامية
والتصنيفات الفائقة إلى مجال التجربة، وبها يكوّن شكل وصفة
التجربة التي ينشغل بها. وبكلمات أخرى، يمكن للفكر أن يتعرف
على الحقيقة طبقاً لتصنيفات استقلالية التجربة هذه. هذا يعني
أن السبيل الوحيد الذي نحكم به ما إذا كان شيء ما يتطابق مع
الواقع (مثلا، يكون صحيحاً) يكون طبقا لاستقلالية التجربة
والخبرة وليس مبنيا على خبراتنا عن الواقع ذاته.
يشرح أدلر بأن دافع كانط هو أن
يجعل من رياضيات أقليدس وعلم الفيرياء عند نيوتن كأمثلة
على تشكيل الواقع ونتائج التجارب المستقلة. مع ذلك، يذكرنا
أدلر بالتالي:
هناك ثلاثة أحداث تاريخية تكفي لأن تبيِّن أنه كان
خيالياً في طرح وجهة نظره ونجاحها في فعلته هذه:
اكتشاف وتطوير الحسابات التي لا تنتمي إلى أقليدس
وكذلك نظرية الأرقام الحديثة تكفي لتبين كيف أن اختراع كانط
للأشكال السامية للمكان والزمان كشيء يضبط مفاهيمنا-الحسية ويمدنا
بالتأكيد والواقعية لحسابات أقليدس والرياضيات البسيطة كان خيالياً
بشكل كلي تماماً.
شبيهًا بذلك، استبدال فيزياء نيوتن (الكون
عبارة عن آلة ضخمة). والله خارج هذه الآلة (بالفيزياء الحديثة
للنسبية)، وإضافة نظريات الاحتمالات والإحصائيات للقوانين العرضية،
تطوير الفيزياء الذرية المبدئية والميكانيكا الكمية، تكفي هذه
أيضاً لبيان كيف كان الأمر خيالياً بالنسبة لكانط عندما اخترع
التصنيفات الفائقة للفهم لكي يصبغ على الفيزياء النيوتونية التأكيد
والمصداقية.
ويصل أدلر إلى خلاصة تجعله يتعجب كيف يمكن
لإنسان في القرن العشرين أن يتناول فلسفة كانط المتسامية
بشكل جِّدي، حتى إذا استمرت في كونها مدهشة في بعض النواحي كعمل
فكري خلاّق.؟! (Adler, TPM,97-98)
ويجادل بول كاروس: بدون أن نشجب العلم ونعتبره
وهما من العقل الإنساني ، يجب أن نعترف أنه بالرغم من النقائص التي
نلحظها في بعض أفراد العلماء، فإن الشكل النموذجي للعلم (الذي
يتكون من وصف الأشياء في وجودها الموضوعي) يمكن التعويل عليه ويمكن
أن يتحقق ذلك أكثر وأكثر. (Carus, EKP,in Kant, PFM,236)
|